العلمانية بين الحملة المضادة والممارسة الواقعية: قراءة نقدية

بقلم: الحبيب حاجي

في خضم النقاشات الدائرة حول العلمانية والحملات التي تُشنّ ضدها من طرف بعض الجهات ذات المرجعية الدينية أو من يدور في فلكها، يبدو ضرورياً إعادة التذكير ببعض الحقائق والقناعات التي تراكمت عبر القراءات العميقة للنصوص والتاريخ الإسلامي. هذه القناعات تسلط الضوء على المفارقات الصارخة بين الخطاب السائد حول “الإسلام كدين ودولة” وبين الواقع التاريخي الذي يكشف عن ممارسات علمانية خفية في قلب التجربة الإسلامية ذاتها.

العلمانية في القرآن وسياقاته

لمن يتأمل النص القرآني بتمعن، بعيداً عن القراءة السطحية التلاوتية، يدرك أن القرآن يحمل في جوهره قواعد علمانية واضحة. فهو يُبقي المجال واسعاً للتعايش مع الآخر المختلف دينياً وثقافياً، كما يتيح التعامل الإنساني والمدني بعيداً عن الانتماءات الدينية. إن النصوص التي تجيز الزواج من الكتابيات، وتسمح بأكل طعام أهل الكتاب، وتجعل العلاقة بين الناس قائمة على المعاملات الأخلاقية والقيم الإنسانية، هي في جوهرها دعوة للعلمانية كإطار جامع للتعايش.

التاريخ الإسلامي: تعددية وصراع لا ينتهي

التاريخ الإسلامي ذاته يبرهن على أن أي محاولة لإقامة “دولة إسلامية” خالصة ظلت تواجه تناقضات داخلية. لم تعرف أي تجربة إسلامية تطبيقاً متكاملاً للنصوص الدينية، سواء القرآن أو السنة. فالاختلافات الجوهرية بين المذاهب والمدارس الفقهية، والتأويلات المتناقضة للنصوص، وصلت إلى حد الاقتتال وسفك الدماء. هذا الصراع يعكس إشكالية عميقة: هل يمكن للدين أن يكون أساساً ثابتاً للحكم والسياسة؟

بل إن نشأة الفقه والاجتهاد جاءت في سياقات اجتماعية وسياسية فرضت نفسها على النصوص، مما يجعل القواعد الفقهية أكثر قرباً من الحلول العلمانية منها إلى النصوص الدينية. فالفقهاء، على مر التاريخ، كانوا يصيغون أحكاماً لتدبير واقع متغير، وسرعان ما كانت هذه القواعد تسقط بسقوط السلطة التي حمتها.

النبي محمد: أول ممارسة للعلمانية في الإسلام

حتى في حياة النبي محمد، نلمح ممارسات علمانية واضحة. تعامله مع اليهود، سواء على المستوى التجاري أو الإنساني، وزواجه من مسيحية، وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية مع غير المسلمين، كلها شواهد على تبني منهج عملي قائم على الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة، بعيداً عن فرض الدين كمعيار وحيد للعلاقات.

العباسيون والإسلام الرسمي

من الضروري هنا التذكير بأن الإسلام الذي نعرفه اليوم في نسخته السنية التقليدية هو نتاج البناء العباسي، الذي أعاد صياغة الموروث الديني وفقاً لاحتياجات السلطة. الإسلام العباسي ليس هو الإسلام الوحيد الذي عرفه التاريخ، بل كانت هناك إسلامات متعددة اندثرت بفعل هيمنة السلطة العباسية التي عملت على إقصاء كل قراءة مغايرة للقرآن والسنة.

العلمانية كإطار للتعايش

إن العلمانية ليست أيديولوجية معادية للدين، بل هي منهج وسلوك يتيح التعايش المشترك بين مختلف الانتماءات الدينية والثقافية. في واقعنا الحالي، استفاد المتدينون أنفسهم من العلمانية التي وفرت لهم بيئة آمنة لممارسة شعائرهم بحرية، بعيداً عن النزاعات التي قد تُفرض إذا كانت الدولة منحازة لدين أو مذهب دون آخر.

في مواجهة الحملة ضد العلمانية

إن الحملة الموجهة ضد العلمانية تعكس خوفاً من فقدان السيطرة على المجال العام. لكن التاريخ يبرهن أن العلمانية ليست خطراً على الدين، بل ضمانة لاستمرار وجوده في مجتمع متعدد. إن التحدي الحقيقي يكمن في تعليم الناس أن العلمانية ليست تهديداً، بل هي وسيلة لضمان العيش المشترك، وهو ما يحتاجه المغاربة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

إن العلمانية ليست بدعة مستوردة، بل هي جزء من تراث إنساني شامل، مارسته المجتمعات الإسلامية ذاتها بطرق غير مباشرة. والحاجة إليها اليوم تتجلى كضرورة لبناء دولة مدنية تضمن الحقوق للجميع، بغض النظر عن معتقداتهم أو انتماءاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى