العلمانية والعلمنة: بين المفاهيم وسيرورة التاريخ
بقلم:حاتم أمزيل
في محاولة لاستيعاب إحدى أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل في الفكر العربي المعاصر، يأتي كتاب “العلمنة والعلمانية: مداخل ورؤى” كإسهام معرفي يسلط الضوء على التعقيد المفاهيمي والتاريخي لهذه الإشكالية. في مقدمة الكتاب، يتناول الكاتب حاتم أمزيل مسار البحث الفلسفي والسوسيولوجي الذي قاده إلى إعادة التفكير في الدلالات المختلفة لمفهوم العلمنة والعلمانية.
البداية: من الوضوح إلى التعقيد
يُشَبّه أمزيل عملية البحث بمسار السفر: تبدأ برؤية واضحة للهدف، لكن مع التعمق في الرحلة، يتحول الوضوح إلى غموض، ثم إلى إعادة اكتشاف. يوضح الكاتب أن عمله البحثي في بدايته كان يهدف إلى تقديم تفسير مفاهيمي واضح لمفاهيم مثل العلمنة، العلمانية، السلطة الدينية، الحرية، والتسامح، آملاً أن يسهم ذلك في تقريب المسافات بين الأطراف المتصارعة فكرياً.
لكن مع تعمقه في النصوص الفلسفية والسوسيولوجية، اكتشف أن هذه المفاهيم لا تكتسب معناها الكامل إلا في سياقاتها التاريخية والاجتماعية. وبهذا، انتهى إلى استنتاج مفاده أن أي محاولة لفهم هذه المفاهيم بعيداً عن سياقها الخاص تقود إلى نتائج مشوشة وغير دقيقة.
العلمنة: تعدد الدلالات
يشير أمزيل إلى أن مفهوم العلمنة يتسم بتعدد دلالاته بناءً على الحقول التي يُستخدم فيها:
• في السوسيولوجيا: تشير العلمنة إلى التحولات القيمية والسلوكية التي عرفها المجتمع الغربي، حيث تراجع تأثير الدين على الحياة الاجتماعية والسياسية.
• في الفلسفة: يُبرز المفهوم دور العلمنة كعملية مرتبطة بتحرر الإنسان الحديث من القيود الدينية لبناء عالم جديد على أسس عقلانية وعلمية.
• في التاريخ: تظهر العلمنة كمحطات تاريخية كبرى أسهمت في فك الارتباط بين الدين والسياسة في المجتمعات الغربية.
العلمانية: بين القانون والسيرورة
أما مفهوم العلمانية، فيُبرز الكاتب أنه يشير إلى السيرورة القانونية التي تؤدي إلى حياد الدولة تجاه الدين، كما هو الحال في التجربة الفرنسية مع قانون الفصل لعام 1905. هذا الحياد يضمن حرية المعتقد والممارسة الدينية للأفراد، مع الحفاظ على استقلالية الدولة عن التدخلات الدينية.
خصوصية التجربة الغربية
ينتقد أمزيل محاولات إسقاط التجربة الغربية للعلمنة والعلمانية على السياقات العربية الإسلامية، مشيراً إلى أن مغامرة العلمنة في الغرب جاءت نتيجة سيرورة تاريخية طويلة وواعية لا تتوفر شروطها في المجتمعات العربية الإسلامية.
دعوة لإعادة التفكير
يدعو الكاتب إلى استخدام المفاهيم بحذر، معتبراً أن التعمق في الواقع الإنساني يستلزم انفتاحاً على التعدد والاختلاف، بما يعكس تعقيد التجربة البشرية.
يقدم كتاب “العلمنة والعلمانية: مداخل ورؤى” نموذجاً فكرياً يتحدى التبسيط المفرط ويُشَكِّك في إمكانية نقل المفاهيم والتجارب التاريخية بين السياقات المختلفة دون مراعاة خصوصياتها. إن قراءة هذا الكتاب ليست فقط دعوة للتفكير، بل أيضاً فرصة لإعادة تقييم المسلمات في ضوء البحث الفلسفي العميق.