تراجع فن المديح والسماع بفاس: هل خان التلامذة إرث الحاج محمد بنيس؟
شهد ميدان المديح والسماع في مدينة فاس تطورات لافتة أثارت الكثير من الجدل والانتقادات، خاصة بعد ما يمكن وصفه بـ”الانقلاب الفني” على الحاج محمد بنيس، أحد أعمدة هذا الفن العريق. الحاج بنيس، المعروف بكونه متقناً، حافظاً، دارساً، وغيوراً على أصالة المديح والسماع، كان له الفضل في تسجيل وإشاعة بردة الإمام البوصيري أمام نخبة المجتمع، مما جعل من مدينة فاس منارة لهذا الفن الراقي، غير أن الخلافات بينه وبين بعض تلامذته أدت إلى تراجع مستوى هذا الميدان، وأثرت سلباً على مكانة فاس، التي أصبحت تتأخر بين المدن المغربية الأخرى المعروفة بازدهارها في مجال المديح والسماع.
ما حدث للحاج بنيس يمكن اعتباره خروجاً عن تقاليد الاحترام والتقدير التي كانت تربط بين الشيخ وتلامذته في مجال المديح والسماع، هؤلاء التلاميذ، الذين كانوا بالأمس يتتلمذون على يديه، باتوا اليوم يجتمعون على تدريب بردة البوصيري بأساليب ومقاربات مختلفة عن تلك التي أرسى قواعدها بنيس، ورغم أن التجديد أمر طبيعي في الفنون، فإن طريقة تعاطي هؤلاء مع التراث أثارت جدلاً واسعاً بين المتتبعين، حيث رأى البعض فيها افتقاراً إلى العمق والروحانية التي كانت تميز أداء الحاج بنيس، مما انعكس سلباً على جمالية الفن وعمقه الروحي.
الخلافات التي نشبت بين الشيخ وتلامذته لم تكن مجرد اختلافات فنية، بل وصلت إلى حدود الإضرار بالمكانة التاريخية لمدينة فاس كمركز رئيسي للمديح والسماع في المغرب، مدن مثل مراكش، مكناس، وشفشاون، استطاعت أن تحافظ على أصالتها وتواكب العصر في آنٍ معاً، مما جعلها تتصدر المشهد في هذا الفن، تاركة فاس خلفها، هذا الواقع يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل المديح والسماع في العاصمة العلمية، ودور الأجيال الجديدة في إعادة إحياء هذا التراث الأصيل.
هل يمكن القول إن تلامذة الحاج بنيس قد خانوا إرث شيخهم، أم أن ما يحدث مجرد تطور طبيعي للفن يتطلب تقبله؟ هل غياب مؤسسات حاضنة لهذا الفن في فاس ساهم في هذا التراجع؟ وأين دور الجهات المعنية، مثل وزارة الثقافة والجمعيات المتخصصة، في الحفاظ على مكانة فاس كمهد للمديح والسماع؟ ثم هل يمكن استعادة أمجاد هذا الفن من خلال تصالح بين الأجيال المختلفة والعودة إلى القيم الأصيلة التي أرساها الرواد؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات صريحة، خاصة وأن فن المديح والسماع ليس مجرد تقليد فني، بل هو جزء من هوية مدينة فاس وثقافتها العريقة، معالجة هذا الوضع تتطلب رؤية جماعية ومسؤولية مشتركة بين الفاعلين في الميدان، والجمهور، والسلطات المعنية، قبل أن يتلاشى هذا التراث.