زكرياء الفيزازي، صوت فاس الذي يجمع بين أصالة الماضي وأناقة الحاضر.
في قلب فاس العتيقة، المدينة التي تعشق تفاصيلها روح الفن وأهازيج الذكر، يبرز اسم الفنان زكرياء الفيزازي كنجمة تتلألأ في سماء التراث العيساوي وفنون أخرى، لم يكن مجرد منشد، بل هو فنانٌ مبدعٌ من سادة الكلمات الرقيقة والألحان العذبة التي تسري في القلوب قبل الآذان، تربى في كنف بيئة عيساوية أصيلة، حيث كان الذكر زاد القلوب، والمقامات الروحية هي منارات الطريق.
لكن زكرياء لم يكتفِ بأن يكون نسخة مكررة مما ورثه، بل انطلق بحسٍ جريء ليعيد صياغة التراث العيساوي بأسلوب يجمع بين أصالة الماضي وأناقة الحاضر، ورغم أن بيئته الأولى حاولت أن تسترده إلى إطارها التقليدي، إلا أن روحه المبدعة أبت إلا أن تنطلق، بصوته الجميل وابتسامته الأنيقة، صار محط الأنظار في الليالي الكبيرة، حيث يتناغم مع الأذكار كما يتناغم الضوء مع الفجر.
عرف زكرياء بتفرده في اختيار الكلمات، فهو يدرك تماماً أن العبارة ليست مجرد لفظ، بل هي روح تستدعي حالة ومقاماً، حين يصدح بصوته في الحضرات، ينساب الذكر كالنهر الهادئ، يجمع بين البساطة والعمق، يرفع الحاضرين من مراتب الأرض إلى أفق السمو، إنه ليس مجرد مغنٍ أو منشِد؛ إنه مرشد للحال، ومُطوِّع للمقامات، يدير الليالي بحسٍ رباني يجعله قريباً من الأرواح قبل الآذان.
لم يكن غريباً أن يصبح زكرياء محبوباً لدى أهالي فاس، المدينة العاشقة لكل ما هو جميل وعريق، إنه ابنها الذي حمل صوتها إلى خارج أسوارها، ليصبح صيته معروفاً بين كبار السادة، وقد تجاوزت شهرته حدود الأداء إلى أبعاد روحية؛ فهو رمز للنقاء والرقي، يوازن بين الأناقة الفنية والرؤية الربانية.
عندما تدق ساعة الذكر وتصدح الدفوف في ليالٍ مهيبة، يكون زكرياء في المقدمة، يدير الجلسات بمهارة قائد وفرادة فنان، كل نغمة تصدر تحت قيادته تبدو وكأنها جزء من سمفونية ربانية، وكل مقام يتلوه يعكس إحساساً عميقاً بالمكان والزمان والحال، إنه لا يغني فقط، بل يصوغ تجربة روحية ترتقي بالحاضرين إلى حالة من الصفاء والسلام الداخلي.
تربى زكرياء على يد كبار الشيوخ في فن التراث العيساوي وفن الملحون، واكتسب من معلمي هذا الفن العريق مهارات متقدمة في تلاوة الأذكار وإتقان المقامات الروحية، أما اليوم، فيشق طريقه رفقة فرقته الرائعة، التي تضمن تقديم التراث العيساوي بكل إتقان وتفرد. من خلال أدائه المتميز، يُعيد زكرياء الحياة إلى هذا الفن الذي يحمل في طياته تاريخًا طويلًا من الثقافة الروحية، ويعيد الربط بين الأجيال ويعيد للتراث العيساوي مجده الرباني.
زكرياء الفيزازي ليس مجرد صوت أو اسم يتردد في أوساط التراث العيساوي، بل هو تجربة عميقة تعيد لهذا الفن ألقه الرباني، هو جسرٌ بين الماضي والحاضر، يجمع أصالة الجذور بأناقة التجديد، ليبقى رمزاً خالداً في سماء فاس وفي قلوب عشاق الفن الأصيل.