هدم فاس للفوضى وجرافات تحرير الملك العمومي : صحوة متأخرة أم تصفية حسابات؟
مع استمرار عمليات تحرير الملك العمومي وهدم المقاهي والمطاعم التي كانت تشتغل خارج القانون، لا يبدو السؤال الملح متعلقًا بتوقيت هذه العمليات أو جدواها، بل بشيء أكثر تعقيدًا وأشد إيلامًا: أين كانت السلطات والمجالس المنتخبة طيلة السنوات الماضية؟ لماذا تُترك هذه الفوضى تتفاقم تحت أعين من يفترض بهم حماية القانون، لماذا كانت السلطات صامتة، تراقب التجاوزات وكأنها خارج المشهد، لا ترى ولا تسمع، واليوم، فجأة، بعد قدوم معاذ الجامعي، والي جهة فاس مكناس الجديد، نشهد “حملة تطهيرية”، وكأن الوالي جاء ليُحيي قانونًا كان مدفونًا تحت ركام التواطؤ والإهمال.
المشهد ليس جديدًا، بل هو نتاج أعوام طويلة من الصمت المريب، إن لم نقل التواطؤ، هذه المقاهي والمطاعم التي شُيّدت على أنقاض الملك العمومي لم تظهر بين عشية وضحاها، ولم تحتل الأرصفة والحدائق دون علم أحد، بل إن ما يجري اليوم هو هدم لما تمت شرعنته ضمنيًا بالصمت الرسمي، وبغياب الرقابة الحقيقية، وبمجالس منتخبة فضلت الانشغال بصراعاتها وتحصيل مكاسبها الضيقة بدل أداء أدوارها.
لكن السؤال الأهم يبقى: لماذا الآن، ما الذي جعل معاذ الجامعي يحرّك المياه الراكدة، هل هو محاولة لإعادة فرض هيبة الدولة في زمن يُطالب فيه الجميع بإرساء قواعد القانون، أم أن الأمر لا يعدو كونه “حملة موسمية” اعتدنا على رؤيتها مع قدوم مسؤول جديد، ما الذي تغيّر فجأة في مدينة اعتادت على التساهل مع الفوضى حتى باتت جزءًا من هويتها؟
في كل هذه الفوضى، يبدو المواطن الضحية الأولى، أصحاب المقاهي والمطاعم ربما كانوا يستغلون الملك العمومي، لكنهم استثمروا أموالهم وسط مناخ من التواطؤ الذي شجعهم على ذلك، اليوم، تُهدم مشاريعهم دون أن يتحمل أحد من المسؤولين القدامى نصيبه من المحاسبة، المواطن البسيط الذي فقد مكانه على الرصيف لأعوام طويلة، يراقب هذه التحركات، لكنه لا يجد تفسيرًا لصمت السلطات طيلة هذه الفترة، ولا لضجيجها المفاجئ الآن.
ما يحدث اليوم هو هدم للفوضى، نعم، لكنه لا يكتمل دون هدم الصمت الذي صنعها، المسؤولية لا تقع فقط على عاتق أصحاب المقاهي والمطاعم، بل على أولئك الذين سمحوا لهم بذلك، إن كان الهدم اليوم ضروريًا لإعادة هيبة القانون، فإن المحاسبة أكثر ضرورة لإعادة هيبة الدولة.
إذا أراد معاذ الجامعي أن ينجح في مهمته، فعليه أن يذهب أبعد من هدم الجدران والمنشآت، عليه أن يهدم جدار الصمت الذي تحتمي خلفه المجالس المنتخبة والسلطات المحلية، عليه أن يُرسي قواعد تجعل هذه الحملات آخر فصل في حكاية الفوضى، لا مجرد بداية لفصل جديد من العبث، ينتظر فيه المواطن ضجيج الجرافات كلما تغير اسم المسؤول.
وبين هذا وذاك، يبقى السؤال الأكبر: هل هي صحوة حقيقية أم مجرد تصفية حسابات سياسية تتخذ من هدم الفوضى ذريعة لإخفاء المسؤولين الحقيقيين عن هذه الفوضى؟ هل السلطات اليوم جادة في إعادة النظام، أم أن وراء هذه الحملات غايات أخرى تتجاوز مجرد تطهير الشوارع، ليصبح المواطن البسيط هو الضحية في لعبة كبيرة لا يعلم خفاياها؟ حين تفرض الجرافات نفسها، فإنها تعيد رسم معالم الفوضى على أنقاض الفشل المؤسسي، وتبقى الأسئلة دون إجابة، تتجدد مع كل ردم للأنقاض.