العدالة حين تخلع قناعها، أنا وأصحاب البذلة السوداء قصة طويلة لم تنهي بعد …!؟

عندما وقفت أمام القضاء، كانت القاعة تئن بصمت غريب، كأنها تخفي في زواياها أسراراً قديمة ومؤلمة؛ مشهد كهذا لا يعيشه المرء إلا حينما تتعرى الحقيقة أمامه؛ كانت الأسماء الثقيلة للمسؤولين الكبار تتردد في الأروقة كعناوين لقصص مؤجلة، كأنها تعبير صامت عن السلطة التي يصعب النطق ضدها؛ كان الحزام يلتف حول عنقي – حزام من الأيام الثقيلة والأحكام الجائرة، تجسد في ثلاث سنوات من العزلة الباردة، حيث لم يكن في الزنزانة إلا الصمت، وذكريات الأصدقاء الذين اختفوا فجأة، تاركين خلفهم ظلالاً من خيبة لا تتزحزح.

حين وقعت المحنة، أدركت أن مهنة المحاماة ليست فقط مجرد وسيلة للدفاع عن موكل، بل هي مسؤولية مقدسة، صوت للعدل وسط غابة من المصالح والتنازلات. المحامي، كما تعلمت على جسد التجربة، هو صاحب رسالة لا تقاس بالأجر، بل بالكرامة، وبالوقوف في وجه السلطة حين تستبد، وبحماية الضعفاء حين يسقطون في دروب الحياة الوعرة.

كنت أظن أنني محاط بأصدقاء محامين، ممن يحملون هذا الشرف في قلوبهم ويمثلون مهنة العدل كما ينبغي. ولكن، ما إن أزاحت المحنة الستار، حتى تراجعت وجوههم. وجدتهم يعبدون السلطة، يتملقون لأصحاب القرار، حريصين على كسب ود المسؤولين القضائيين الذين قد يملكون التأثير في قضاياهم. تجنبوا القضية، وتناسوا العدالة، مخافة أن يخسروا تلك العلاقات المشبوهة. أليست هذه قسوة مضاعفة، أن يُترك الإنسان حين يكون في أمس الحاجة إلى من يؤازره في معركة الحق؟

غير أن بريق الأمل لم ينطفئ؛ في تلك العتمة، كان هناك رجال شرفاء، محامون أحرار رفضوا الانحناء. وقفوا إلى جانبي، حضروا كل جلسة، وكأنهم يذكرونني بأن هناك من لا يزال يؤمن بأن المحاماة ليست مهنة، بل عهد؛ كانوا يزورونني في زنزانتي الانفرادية، محملين برسائل تضامن، ورسائل حب للعدل الذي قد يُهزم في لحظات، لكنه أبداً لا يموت؛ لهؤلاء الشرفاء، أقول كل التضامن، وأرفع قبعتي احتراما لنضالهم.

وهنا، أستذكر دور الصحافة، ذلك القلم الذي يشهره صاحبه كسيفٍ في وجه الظلم؛ الصحافة الحرة، رغم ما تعانيه من قيود وتحديات، تظل سيفاً للضعفاء وحصناً للحق. إن الأقلام التي لا تهاب الحقيقة، تفضح الفساد، وتحكي حكايات المظلومين، تظل النور الذي يفضح قناع الزيف ويضيء ظلمات الزنازين.

في الصحافة والمهنة القانونية، تلتقي قيم النضال؛ كلاهما يدافع عن قيم مقدسة، عن قضايا تتجاوز حدود المنفعة الشخصية لتصير مواقف شرف؛ هنا، في هذا المزيج من الحرف والكلمة، من المرافعة والمقال، يكمن معنى العدالة، التي تنحني لها الجبال، وتظل وفية لكل من يؤمن بأن الحق لا يموت، مهما طال الليل.

أثناء تلك المحنة، وبينما كنت أتنقل بين أروقة المحاكم وجلسات المحاكمة، تولّدت لديّ رغبة عميقة، رغبة أشبه بنداء دفين؛ تمنيت لو كان أقرب المقربين إليّ محامياً، يحمل عبء هذه المعركة معي، ويكون هو الصوت الذي يصرخ باسمي أمام منابر العدالة. شعرت حينها أن وجود محامٍ من دمي ولحمي، شخص أثق به بلا حدود، كان ليمنحني الطمأنينة في وجه عواصف الشك والخيانة التي أحاطت بي؛ كنت على يقين أنني لن أُخذل، ولن يكون هناك خوف من تنازلات مشبوهة أو تملقٍ للمسؤولين، بل سأجد من يقف معي دون تردد، في رحلةٍ تجسد معنى الوفاء للحق والعدل.

أتمنى أن يكون جزء مني ينتمي لهاته المهنة المقدسة ، وحسب الإرهاصات الأولى لعله كذلك … !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى