لبنان عقلانية تحت النيران.. كيف تفوّقت براغماتية الشيعة على عاطفية السُنّة!.
كان المشهد أشبه برقعة شطرنج متقدة، حيث يقف اللاعبون على جانبي الطاولة، وكلٌّ منهم يترقب خطوة الآخر، وفي هذه الرقعة لم يكن الخصم مجرد لاعبٍ تقليدي، بل كيانٌ مدججٌ بذكاء اصطناعي وأدوات حربية متطورة، بينما وقف الآخرون بأسلحة تقليدية وخطابات مفعمة بالأحلام والغيبية، وهنا تحديدًا برزت الاختلافات بين براغماتية الشيعة وعاطفية السُنّة، وكأنها مرآة تعكس الفجوة بين من يدير معاركه بعقلانية ومن يغرق في خرافات النصر الإلهي.
لطالما امتازت الجماعات الشيعية ببراغماتية تكاد تكون علمانية في إدارة معاركها، بعيدًا عن خطاب الملائكة والكرامات الذي أجهد الجماعات السُنّية لعقودٍ طويلة، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب: “اعقلها وتوكل”، فالعقل أساس التدبير، والحزب الشيعي في لبنان، على سبيل المثال، دخل الحرب بحسابات دقيقة، يدرك حدوده ويعي قدراته، لم يرفع سقف الوعود ولم يعد بالنصر الكامل أو التحرير الشامل، بل كانت خطته واضحة: المشاركة بقدر يكفي لرفع شعبيته داخليًا والحفاظ على مكانته الإقليمية، مع إبقاء خطوط الرجعة مفتوحة، مصداقًا لقوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” (الأنفال: 60)، فالاستعداد بما هو متاح أساس أي معركة.
لكن الحالمين من الإسلاميين السُنّة لم يفهموا هذه العقلانية، اعتادوا على خطاباتٍ تَعِدُ بالنصر الإلهي، بملائكةٍ تهبط من السماء لتغير موازين المعارك، وهي ذات الخطابات التي صدحت بها أصوات كثيرة لزعماء سنيين من قبل، وها هي تتكرر مع هؤلاء أعلنوا بداية المعركة “طوفان الأقصى” بخطابات أقرب إلى قصص الأساطير منها إلى خطط الحرب، إن التغيير يبدأ بالعمل الواقعي لا الأماني.
عندما أدرك الحزب الشيعي في لبنان حجم التحديات، ومع أولى ضربات العدو التي فجرت خطوطه الأمامية، كان القرار واضحًا: وقف النزيف، لم ينتظر معجزات السماء، ولم يُغامر بشعبه في حرب استنزاف لا تُبقي ولا تَذر، كان القرار عقلانيًا، وإن بدا للبعض انتكاسة، وفي المقابل استمرت الجماعة في غزة في معركتها، رغم أن الواقع كان ينذر بخسائر فادحة، وكما قال أحد المحللين: “الحرب تحتاج لعقلٍ يقيس الأمور بميزانها، لا بعاطفةٍ تغرق صاحبها في مستنقع الخسائر”.
المفارقة أن من ينتقدون الحزب اللبناني اليوم، هم أنفسهم من رفضوا محاسبة جماعات سنية أخرى ارتكبت أخطاءً مشابهة، لم يسألوا النصرة في سوريا عن دورها في تحرير الأقصى، ولم يلوموا طالبان على تركها القضية الفلسطينية، لكنهم يُطالبون الحزب اللبناني بالمستحيل، وكأن المطلوب أن يصبح لبنان مثل غزة، أن يُدمَّر عن بكرة أبيه، أن يضحي بكل شيء، من أجل شعاراتٍ فارغة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وكما قال الإمام الشافعي: “الرأي كالليل مساره قصير، والعقل كالشمس دائماً منير”.
كان لافتًا كيف تحوّل الإعلامي عبد الباري عطوان إلى ناقدٍ شرس للحزب اللبناني، يعيبه على حقن دماء شعبه، ومن مكانه الآمن في بريطانيا، حيث لا يُخاطر بجوازه أو راتبه، يُطالب الآخرين بالتضحية حتى آخر رجلٍ فيهم، هذه العقلية، التي لا ترى سوى الشعارات، هي نفسها التي أغرقت الجماعات السنية في مستنقعات الحروب العبثية، وهي ذاتها التي قال فيها المفكر الجزائري مالك بن نبي: “إن المشكلة ليست في صدق النوايا، ولكنها في قصور الفكر”.
الحزب الشيعي، رغم خسائره، خرج من المعركة بواقعية تُحسب له، لم يترك شعبه يُباد، ولم ينتظر نزول الملائكة لنجدته، أدرك حدود قدراته، وتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يريده أن يكون، وفي المقابل لا تزال بعض الجماعات السنية تُكرر أخطاءها، تدخل المعارك بخطاباتٍ حالمة، وتخرج منها بخسائر فادحة، دون أن تأخذ العِبرة أو الدرس، وكما قال الشاعر:
“ومن لم يعظْهُ الدهرُ لا يتعظُ… ومن كان يرجو الغيبَ ضلَّ نهجهُ”.
هكذا، يبقى الفرق واضحًا بين عقلٍ يتعامل مع الحرب كمعادلةٍ منطقية، وآخر يراها بوابةً للأحلام والأساطير، إنها دروسٌ من حرب لن تُنسى، دروسٌ يجب أن تُكتب بدماء من قرروا أن يقولوا لا للوهم، وأن يقودوا شعوبهم بعقلانيةٍ، لا بخرافاتٍ لا مكان لها في معترك الحياة.