قراءة المساء .. تحرير الملك العمومي بين تنظيم المدن وقطع أرزاق الفقراء.

تحرير الملك العمومي هو معركة غير متكافئة في شوارع المدن المغربية، حيث تعج الأرصفة بالبسطاء الذين يقتاتون من عرق جبينهم. فهل يمكن أن يُعتبر المس بصاحب محلبة صغيرة أو بائع خضر يعرض سلعته على عربة خشبية في زاوية شارع ضيق تزييناً للمدينة؟ أم أن هذا الإجراء، حين يُنفذ دون بدائل واقعية، هو في حقيقته تشويه للوجه الإنساني للمدينة؟

في أحد خطاباته التاريخية، أكد جلالة الملك محمد السادس أن “التنمية البشرية والاجتماعية تبقى جوهر السياسات العمومية. فلا يمكن تحقيق التقدم والازدهار إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة”. هذا القول يلقي بظلال ثقيلة على سياسات تحرير الملك العمومي التي تُنزل في بعض الأحيان بحدّة، فتطرد أرزاق المساكين دون أن توفر لهم البدائل المناسبة.

ليس الفقراء مَن يحتلون الأرصفة حباً في التجاوز أو انتهاكاً للقانون، بل لأنهم لم يجدوا فضاءات مشروعة تُهيئها السلطات لهم كي يمارسوا فيها تجارتهم الصغيرة. فعندما تُزال محلبة صغيرة أو يُطرد بائع الفواكه، يصبح السؤال واجباً: أين سيذهب هذا المواطن البسيط؟ وكيف سيؤمن قوت يومه وأسرته؟

المدن المغربية تحتاج بالفعل إلى الترتيب والتنظيم. الأرصفة، التي تُعد ملكاً مشتركاً للجميع، لا يجب أن تتحول إلى ملكية خاصة تحت أي ظرف. ولكن، هل تزيين المدينة يعني طرد الفقراء؟ هل يمكن أن يكون الجمال الذي نسعى إليه جمالاً شكلياً، بينما تخفي واجهاتنا المنظمة مآسي اجتماعية وأمنية؟

في خطاب آخر، دعا جلالة الملك إلى ضرورة “اعتماد مقاربة شاملة تتكامل فيها أبعاد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية”، وهو ما يعني أن أي قرار يستهدف الملك العمومي يجب أن يُقارب من زاوية إنسانية لا تقتصر على الجانب القانوني أو الجمالي. فأي حملة لتحرير الملك العمومي دون توفير حلول بديلة للفئات المستهدفة تتحول إلى ضرب للأمن الاجتماعي، إذ إن فقدان الفرد لمصدر رزقه الوحيد يدفعه في كثير من الأحيان إلى خيارات يائسة، كالجريمة أو التسول، ما ينعكس سلباً على استقرار المجتمع ككل.

الحل يبدأ من الاعتراف بأن هؤلاء الذين يُطردون من الأرصفة ليسوا متجاوزين للقانون بقدر ما هم ضحايا اقتصاد هش يفتقر إلى الفرص. ويحتاج هؤلاء إلى إجراءات إنسانية واضحة، مثل إحداث فضاءات تجارية مهيأة لاستيعاب الباعة تتناسب مع قدرتهم الشرائية وتضمن كرامتهم، وتبسيط مساطر الترخيص لأصحاب المحلات الصغيرة لتجنب العمل في ظروف غير قانونية، وإطلاق برامج لدعم المشاريع الصغيرة تتيح لهذه الفئات التدرج في تحسين أوضاعها.

في خطاب عيد العرش لعام 2018، قال جلالة الملك محمد السادس: “أنا ملك الفقراء قبل أن أكون ملك الأغنياء، وأنا أشعر بمعاناتهم وأحزن لآلامهم”. هذا التصريح يضعنا جميعاً أمام مسؤولية كبيرة. تحرير الملك العمومي ليس جريمة، لكنه قد يتحول إلى ظلم عندما يتم بعشوائية، وعندما تكون عواقبه وخيمة على الفقراء دون حلول بديلة. إن تنظيف المدينة من مظاهر العشوائية يجب أن يرافقه تنظيف السياسات من العشوائية أيضاً. فما نحتاج إليه ليس فقط مدناً جميلة، بل مدناً إنسانية، حيث يجد كل مواطن مكانه فيها دون أن يُمس بأمنه الاجتماعي أو يُطرد إلى هوامش النسيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى