حينما تُدارُ العقولُ من تحتِ الأحزمة
المرأةُ عظيمةٌ بما أودعهُ اللهُ فيها من عقلٍ وإحساسٍ، وهي صنوُ الرجلِ وشريكتهُ في حملِ أمانةِ الحياة، لكنَّ فقهاءَ الذكوريةِ أَبوا إلا أن يُحيلوا عظمتَها إلى ضعفٍ، وجمالَ دورِها إلى خدمةٍ، وحقوقَها إلى أهواءٍ تُدارُ من تحتِ الأحزمة. هؤلاء، الذين يتخفَّون وراءَ عباءةِ النصوصِ، لا يرونَ المرأةَ إلا جسداً يتبعُ الرجلَ، كظلٍّ باهتٍ في عالمِ ذكوريتِهم المتآكلة.
إنَّ مقترحاتِ مدونةِ الأسرةِ الجديدةِ ليست إلا محاولةً متواضعةً لإنصافِ المرأةِ في مجتمعٍ ما زالت تحكمُه عقلياتٌ ذكوريةٌ، تُقاومُ التغييرَ كما يُقاومُ المريضُ دواءً شافياً يُنهي ألمه، صحيحٌ أنَّ هذه التعديلاتِ تحملُ بعضَ التحسيناتِ، لكنها بالكادِ تُلامسُ تطلعاتِنا، كنّا ننتظرُ قراراتٍ أكثرَ جرأةً تتماشى مع مبادئِ العدلِ والمساواةِ، لكنَّ الصوتَ الذكوريَّ الغالبَ أبى إلا أن يُبقي نصفَ المجتمعِ في الظل.
إنَّ هؤلاء الفقهاء، الذين يحتمونَ خلفَ عباءةِ النصوصِ القطعيةِ، يبدون كأنهم يحملونَ مفاتيحَ الجنةِ والنار، مع أنهم لا يستطيعون حتى تفسيرَ أبسطِ معاني العدلِ في الدين، كيف يُبررونَ إصرارَهم على أنَّ المرأةَ “ناقصةُ عقلٍ ودينٍ”، بينما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “النساءُ شقائقُ الرجال”؟ أم أنَّ هذا الحديثَ يتعارضُ مع مصلحتِهم في الحفاظِ على سيطرتِهم المطلقة؟
قال الإمامُ ابن القيم: “الشريعةُ مبناها على العدلِ، فكلُّ ما خرجَ عن العدلِ فليس من الدينِ”، فأينَ العدلُ حينَ يُسلَبُ حقُّ المرأةِ في الميراثِ المشروعِ لزوجِها؟ أينَ العدلُ حينَ تُخرجُ من بيتِها باسمِ الأعرافِ الذكوريةِ؟ وكيفَ يُمكنُ لفقهِهم أن يُعارضَ قولَ اللهِ تعالى: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ” [البقرة: 240]؟ أليسَ هذا نصاً واضحاً ينحازُ لإنسانيةِ المرأةِ؟
وفي الوقت الذي تُناضلُ فيه المرأةُ من أجلِ حقوقِها المشروعة، نجدُ هؤلاء الفقهاء يتنصلونَ من أبسطِ حقٍّ للمرأةِ، وهو حقها في البقاءِ ببيتِ الزوجيةِ بعد وفاةِ زوجِها، هذا الحقُّ الذي وردَ في نصوصِ القرآنِ الكريمِ بشكلٍ واضحٍ، فاللهُ تعالى يقول: “وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا” [البقرة: 234]، وهذا يعني أنَّ للمرأةِ الحقَّ في البقاءِ في منزلِها بعد وفاةِ زوجِها، لحينِ انقضاءِ فترةِ العدةِ، ومع ذلك، نجدُ هؤلاء الفقهاء يسخرونَ من هذا المقترح، ويعتبرونَ أنَّ المرأةَ ليست أهلاً للبقاءِ في بيتِ الزوجيةِ بعد وفاته، كأنَّها لا تمثلُ جزءاً من تلك الحياةِ المشتركةِ التي قضتها مع زوجِها.
هذه السخريةُ من حقِّ المرأةِ في البقاءِ في بيتِها بعد وفاةِ زوجِها تكشفُ عن عقليةٍ ذكوريةٍ بالية، ترفضُ الاعترافَ بأن المرأةَ قد تكون أكثرَ تمسكاً بمسؤولياتِها من الرجلِ في الحفاظِ على استقرارِ الأسرةِ، حتى بعد رحيلِ شريكِ الحياة، وبدلاً من أن يكونَ لهم السبقُ في دعمِ هذه الحقوق، يواصلونَ الهجومَ على المقترحاتِ التي تُنصفُ المرأة، ويصرونَ على أنَّ هذا الحقَ يتناقضُ مع تقاليدهم التي تضعُ المرأةَ دائماً في خانةِ القاصر.
المرأةُ ليست مجردَ تابعٍ يُستعملُ ثمَّ يُلقى به، هي إنسانٌ عاقلٌ مستقلٌ، لها كرامتُها وإرادتُها، قال ابن حزم الأندلسي: “لا فضلَ بين رجلٍ وامرأةٍ إلا بالتقوى”، لكنَّ عقولَ هؤلاء لم تبلغْ بعدُ مفهومَ التقوى، لأنَّ ذكوريتَهم طغت على فهمِهم للنصوص.
يا أيها الفقهاءُ المزعومون، أفيقوا من وهمِكم، النساءُ اليوم لم يعدنَ صامتاتٍ أمامَ هرائِكم، هنَّ يقرأنَ النصوصَ بعقلٍ منصفٍ وروحٍ حرةٍ، ويجدنَ فيها عدلاً غابَ عنكم، قال تعالى: “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى” [آل عمران: 195]، فكيفَ تضيعونَ حقَّ المرأةِ وتدّعونَ أنها ناقصةٌ؟
الدعوة للانتصار لحقوق المرأة
المرأةُ هي عمادُ المجتمع، وعليها أن تحظى بحقوقٍ كاملةٍ، كما الرجل، لا أن تُحصر في زوايا التهميش والتقليد. إنَّ الوقت قد حان لكي نرفع صوتنا ونطالب بحقوقها كاملةً، بدءاً من حقها في البقاء في بيت الزوجية بعد وفاة زوجها، وصولاً إلى كافة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لن نتوقف عن النضال والمطالبة بتعديل النصوص، وإزالة أي عائقٍ يحول دون تحقيق العدالة والمساواة الكاملة بين الجنسين. فالمرأة ليست فقط جزءًا من الحياة، بل هي أساسها، وحقها في المشاركة بفاعلية في بناء المجتمع هو حقٌّ لا يمكن التراجع عنه.
إنَّ الوقت قد حان لنسلط الضوء على هذه الحقوق، ونطالب بحماية قوانيننا، التي يجب أن تُضمن للمرأة حرية الحركة، وحقها في اتخاذ قراراتها؛ إذ لا يمكننا أن نسمح بأن تظل حقوق المرأة رهينة تقاليد قديمة وأفكار ضيقة، بل يجب أن يكون لنا الدور الأكبر في بناء مجتمع متوازن يرتكز على قيم العدالة والمساواة.
بقلم : محمد القاسمي