أزمة إعلامية في رأس السنة .. صناعة مجد الأفراد وقتل لمؤسسات الدَّولة
مع كل بداية عام جديد، يندفع الإعلام المحلي نحو سباق محموم لتتويج “شخصية السنة”، فيتزين المشهد بصور مسؤولين بارزين وسياسيين وأسماء لامعة، ترافقها عبارات الإطراء المبالغ فيه عن إنجازات تُضخم وكأنها أعادت بناء الوطن من الصفر، تُغدق الألقاب على الولاة، ورؤساء المحاكم، والقضاة، ورجال الأمن، في احتفالية إعلامية تُشيد بالأفراد بينما تغض الطرف عن الاختلالات التي تعصف بالمؤسسات، هذا السلوك الإعلامي لا يُمثل مجرد انحراف في الدور الصحفي، بل يعكس ثقافة خطيرة تُسهم في هدم أركان الدولة الحديثة .
فالدول تُبنى بالمؤسسات القوية المستدامة، لا بشخصيات تُلمع مؤقتاً لتختفي بعدها تاركة وراءها فراغاً قاتلاً، “الدولة تُبنى بالمؤسسات لا بالأفراد”، هكذا تحدث مونتسكيو، وهو قول يتجاهله إعلامنا الذي يُصر على تمجيد أشخاص على حساب تكريس ثقافة العمل الجماعي والمؤسسي،
ما قيمة والي أو مسؤول أو برلماني يُشاد به ليل نهار، بينما المواطن لا يجد خدمات أساسية تُلبي احتياجاته، والشوارع غارقة في الفوضى، والعدالة تُغتال يومياً في المحاكم، أين كان الإعلام عندما تضاعفت مشاكل البطالة، وانهارت الخدمات الصحية، وتراجعت البنية التحتية، كيف يجرؤ على التطبيل لإنجازات فردية في وقت يعاني المجتمع من أزمات مزمنة،
إن الصحافة، كما قال جورج أورويل، “تعني نشر ما لا يريد الآخرون أن يعرفوه، كل ما عدا ذلك هو علاقات عامة”، وما يُمارسه الإعلام اليوم من تلميع لشخصيات العام لا يعدو كونه حملة علاقات عامة تخدم مصالح ضيقة، بينما تُبعده عن دوره الأساسي كسلطة رابعة تراقب وتكشف الحقائق وتحاسب المسؤولين على تقصيرهم،
شهد التاريخ مراراً كيف أن الدول التي راهنت على أفراد بدل المؤسسات سقطت في مستنقعات الأزمات بمجرد غياب تلك الشخصيات، الإعلام الذي يصنع الأبطال الفرديين يُشارك، بشكل غير مباشر، في وأد فكرة الاستمرارية المؤسسية، ويُغذي ثقافة الاتكال على أشخاص بدل بناء نظام قوي يُدير الأمور حتى في أحلك الظروف،
نحن بحاجة إلى إعلام يعيد ترتيب أولوياته، يُركز على النقد البناء، ويُسلط الضوء على أوجه القصور في المؤسسات بدل الانشغال برسم صور وردية لأفراد بعينهم، أمم قوية تنتظر إعلاماً شجاعاً، لا يهاب مواجهة الحقيقة، ويُعلي مصلحة الشعب على مصلحة الأفراد،