إضراب المحامين: استشعار للمسؤولية المجتمعية ودفاع عن العدالة
ذ.المهدي حمادة محامي بهئية الدار البيضاء
في وقت تشهد فيه منظومة العدالة في المغرب تحديات عميقة، ومع تضارب وجهات النظر حول الإصلاحات التشريعية والقضائية الجديدة، جاء إضراب المحامين، ليس كخطوة تصعيدية محضة، بل كإعلان عن استشعار عميق للمسؤولية المجتمعية، ودفاع صارم عن جوهر العدالة وحقوق المواطنين. فالمحاماة ليست مجرد وظيفة ضمن منظومة العدالة؛ إنها رسالة سامية، وجسر يربط بين الأفراد والقانون، وحاجز يحمي الحقوق في وجه أي تعديات محتملة.
إن إضراب المحامين، في جوهره، يعكس موقفا يتجاوز مطالبهم الخاصة ليصل إلى معركة مجتمعية شاملة، تهدف إلى ضمان أن تُسن القوانين بروح تضمن الحقوق وتصون المكتسبات. هذا التوجه يؤكد أن المحامين لا يدافعون عن مكتسبات مهنية بحتة، بل عن مفاهيم أساسية تمس المواطن العادي في حرياته وحقوقه، وتسعى إلى تعزيز سيادة القانون على أساس العدالة والمساواة.
ضرورة الإضراب في سياق الإصلاحات التشريعية
الإضراب الحالي يأتي كرد فعل على مشاريع القوانين القضائية التي تعتبر تهديدا للحقوق الأساسية المتقاضين وضمانات الدفاع، ودفاعا عن المواطن المغربي الذي يعتبر المتضرر الأكبر من هذه التعديلات، حيث تنص بعض المقترحات المصادق عليه من طرف مجلس النواب على حرمانه من حق استئناف الأحكام بالأداء التي تقل عن 30,000 درهم، و حرمانه من حق الطعن بالنقض في القرارات التي تقل 80,000 درهم، الأمر الذي يكرس الطبقية في التقاضي. ويزداد الوضع تعقيدا مع إلزام المواطنين بقرارات قضائية دون منحهم الحق في التنفيذ ضد بعض مؤسسات الدولة إلا بعد صدور قرار نهائي من محكمة النقض، بينما تحصل المؤسسات على حق التنفيذ فقط بأحكام استئنافية.
جانب آخر يعكس عدم ملاءمة هذه التعديلات لواقع المجتمع المغربي هو البعد الاقتصادي، إذ يغفل المقترح عن مراعاة الظروف المالية والاجتماعية للفرد المغربي. فبحسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط الصادر في أبريل 2021، يبلغ متوسط الدخل السنوي للفرد حوالي 21,515 درهما فقط، مما يجعل تحمل أعباء مالية مثل 30,000 أو 80,000 درهم عبئا كبيرا على المواطن العادي. ويطرح هذا تساؤلا جوهريا: “لمن تُشرع هذه القوانين؟”.
وتشير بعض الفصول أيضا إلى إعطاء النيابة العامة حق الطعن في بعض الأحكام حتى بعد مرور عقود من الزمن، مما يخشى منه أن يكون استهدافا للحق في استقرار الأحكام وتوفير الأمن القانوني للمواطنين.
أحد أبرز ما أثار حفيظة المحامين هو أن هذه القوانين تضع قيودا على دورهم، ما قد يحولهم إلى مجرد حضور شكلي في قاعات المحاكم دون دور حقيقي في الدفاع عن حقوق الأفراد والعدالة. فالمحامون يرون أن هذه التعديلات تسعى لإفراغ مهنة المحاماة من مضمونها وتحويل دورها إلى دور هامشي، وهو ما يشكل انتقاصا من قيمة العمل القانوني وتأثيره.
كما أن هذه المشاريع تستهدف تعديل القوانين الإجرائية، والتي لم تشهد تغييرات جذرية منذ أكثر من أربعة عقود. هذا الوضع يستدعي التأني والدراسة المتأنية والتشاركية لتجنب أي تأثيرات سلبية على حقوق المواطنين ومستقبل العدالة.
إضراب دفاع عن الديمقراطية وحماية للحقوق
إن مهنة المحاماة، في الأساس، هي خط الدفاع الأول عن حقوق المواطنين وحرية الوصول إلى العدالة. وقد ظهر هذا الدور بوضوح في الأحداث الأخيرة؛ إذ أظهر المحامون وحدة الصف في وجه مشاريع القوانين التي اعتبروها تهديدا لهذا الدور. فالعدالة لا يمكن أن تتحقق دون أن يكون لكل متقاض الحق في الدفاع من خلال محام مستقل،يملك كامل الوسائل القانونية، وقادر على تقديم دعمه ومساندته القانونية بحرية كاملة.
الإصرار على هذا الموقف يعكس التزام المحامين بقيم الديمقراطية والعدالة. ويؤكدون على أن العدالة لا تقتصر على المحاكم وأروقتها، بل تمتد لتشمل ضمانة الدفاع كحق أصيل، وضرورة تشريعية. وبذلك، فإن موقف المحامين يأتي انطلاقا من حرصهم على عدم تهميش دورهم في المجتمع وإبقاء صوت المواطن حاضرا في المنظومة القضائية.
المطالبة بإصلاحات عادلة وشاملة
يطالب المحامون بإصلاحات تتبنى منظورا شاملا؛ إصلاحات تهدف إلى تعزيز مشاركة جميع الأطراف المعنية. وتأتي هذه المطالبات كدعوة إلى الحكومة لإجراء تعديلات تراعي مصالح المجتمع ككل، وتعمل على تحسين المناخ القضائي بالمغرب بما يخدم الجميع، لا أن تستهدف فئة معينة. ويظل الأمل معقودا على أن يتبنى الحوار القادم رؤية تضمن تعزيز حماية المتقاضين، وتثبيت ضمانات الدفاع في التشريعات القادمة.
المحاماة والدور الاجتماعي
بعيدا عن النظرة التقليدية، فإن للمحامي دورا اجتماعيا بامتياز؛ فهو يمثل صوت المظلومين، والمدافع عن العدالة، والسند القانوني لكل من يحتاجه. وإن موقف المحامين اليوم، إذ يؤكد على ضرورة استيعاب التحديات الاجتماعية في قوانين العدالة، يبرز أنهم لا ينظرون إلى مهنتهم كوسيلة لتحقيق مكاسب شخصية، بل كأداة للحفاظ على السلم الاجتماعي ودعم بناء دولة القانون.
نضال من أجل مكتسبات غير قابلة للتجزيء وحقوق دستورية ثابتة
ينظر مكتب الجمعية إلى أن النضال الحالي للمحامين لا يقتصر على مطالب مهنية آنية أو جزئية، بل هو معركة من أجل ملف مطلبي شامل يسعى إلى تحصين المكتسبات الدستورية والحقوقية المتحققة للمتقاضين وللوطن. هذا النضال يعبر عن رغبة المحامين في حماية هذه المكتسبات من أي ردّة تشريعية قد تنتقص من حقوق المواطنين أو تضعف سيادة القانون، خاصة في ظل تغييرات مقترحة قد تمس بجوهر العدالة.
ومن بين المطالب الأساسية، يبرز مطلب إقرار نظام ضريبي عادل يتناسب مع طبيعة رسالة المحاماة كخدمة للمجتمع، وليس كعمل تجاري بحت، بالإضافة إلى ضرورة تحصين المكتسبات الاجتماعية للمحامين، لاسيما فيما يتعلق بالتغطية الصحية الأساسية التي تضمن لهم ولعائلاتهم الحماية الصحية الكافية. كما يشمل الملف المطلبي أيضا تكريس حق المواطنين في الحصول على مساعدة قانونية تضمن لهم ولوجا مستنيرا إلى العدالة، مما يتطلب تعزيز مكانة الدفاع في التشريعات الإجرائية بدل السعي إلى تقليصها.
إن هذه المطالب لا تعبر فقط عن تطلعات المحامين، بل هي تأكيد على أن حماية الحقوق الدستورية والعدالة هي مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف المعنية. ويسعى المحامون إلى تطوير التشريع المهني ليعكس هذه الرؤية الشاملة، ويوفر ضمانات حقيقية تعزز من دور المحاماة كركيزة أساسية في تحقيق العدالة والدفاع عن الحقوق.
إن إضراب المحامين الحالي ليس فقط رسالة للجهات التشريعية، بل أيضا للمجتمع ككل؛ لتأكيد دور المحاماة كركيزة أساسية في العدالة، وكصوت للحق والحرية، وللتذكير بأن كل مواطن مغربي يستحق نظاما قضائيا عادلا ومنصفا، يراعي حقوق الجميع ويسعى لتعزيز العدالة الحقيقية.