الألم ليس عقابًا لكن التشفي مرض أكبر
التشفي بالأمراض أصبح ظاهرة مؤلمة في بعض المجتمعات، حيث يُعتقد أن المرض هو عقاب أو جزاء لأفعال فردية أو معتقدات معينة، مثل القول بأن شخصًا ما مريض بالسرطان لأن “ظلم العباد” أو لأنه “شرب الخمر” أو لأنه “ملحد”، كما لو أن المرض هو ثمرة حتمية لأخطاء ارتكبها الشخص في حياته. تلك النظرة الضيقة تجعل من الألم البشري موضوعًا للانتقام أو العقاب، ويشوه الفهم العميق للطبيعة الإنسانية.
يبدأ البعض في ربط المرض بمعتقدات الشخص أو سلوكياته، محاولين فرض تفسيرات سطحية على معاناة الآخرين، هذه التفسيرات لا تعكس سوى جهلهم بحقيقة المرض، بل هي نوع من التنميط الاجتماعي الذي يحرم الإنسان من حقه في الإحساس بالرحمة أو التعاطف. فمثلًا، قد يُقال عن مريض السرطان إنه “عوقب” بسبب إيمانه الضعيف أو سلوكه المنحرف، أو قد يُربط مرضه باختياراته الشخصية، دون النظر إلى أن المرض لا يميز بين الخير والشر، بين المؤمن والكافر، بين الطيب والمذنب، بل هو جزء من التجربة الإنسانية التي تجمعنا جميعًا في معركة مع الحياة نفسها.
إن هذا التفسير الخاطئ للمرض يرتبط بأيديولوجيات قديمة كانت تعتبر المرض جزاءً من الله على “خطايا” البشر. في الوقت الذي تتقدم فيه العلوم الطبية وتكتشف جوانب جديدة في فهمنا للأمراض وعلاجها، يبقى هناك من يصر على ربط المرض بمعايير دينية أو أخلاقية ضيقة، متجاهلين أن المرض يمكن أن يكون مجرد ابتلاء أو ظرف غير متوقع، يصيب الإنسان دون اعتبار لذاته أو سلوكه.
الفيلسوف الفرنسي “فولتير” قال ذات مرة: “من يهين الناس من أجل أفكارهم، يقتل الإنسانية التي فيهم”. وهذه العبارة تُسلّط الضوء على أحد أخطر أوجه التشفي: أن البعض يظن أن الإنسان يمكن أن يُحاكم على أفكاره وأفعاله إلى درجة أن يُترجم ذلك إلى عقاب جسدي، رغم أن المرض لا علاقة له بما يعتقده الإنسان أو كيف يعيش. هذه النظرة تتجاهل أن المرض ليس إلا جزءًا من معركة البشر مع الطبيعة وظروف الحياة.
الفكرة التي يسعى البعض إلى نشرها من خلال هذه التفاسير الزائفة هي أن الفرد يجب أن يُحاسب على معاناته، وهذه فكرة غير إنسانية على الإطلاق. إن الجهل بمفهوم المرض وتصوره كعقاب يمكن أن يؤدي إلى عواقب نفسية سيئة للمريض، حيث يشعر بأنه مستهدف أو معاقب بسبب اختياراته أو معتقداته. وهو ما يزيد من معاناته النفسية على الألم الجسدي الذي يواجهه.
الطبيب النفسي “إريك فروم” في كتابه فن الحب يشير إلى أنه لا يمكننا أن نحب أو نتعاطف مع الآخرين فقط في اللحظات السعيدة، بل يجب أن يشمل ذلك حتى في اللحظات الصعبة التي يمرون بها، بما في ذلك معاناتهم من المرض. وفي هذا، نجد دعوة للرحمة والإنسانية في التعامل مع مرض الآخرين، بعيدًا عن تحميلهم تبعات لا علاقة لهم بها. فالتعاطف مع المريض، بعيدًا عن المعتقدات والأيديولوجيات الشخصية، هو الذي يعكس إنسانيتنا ويمنحنا القدرة على مواجهة الألم بشجاعة أكبر.
إن المرض ليس عقابًا، بل ابتلاءً يتعرض له الإنسان كما يتعرض لمواقف الحياة المختلفة، التي لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم فيها. وبدلاً من أن ننظر إلى المريض كمن يُعاقب على أفعاله أو أفكاره، يجب أن ننظر إليه على أنه كائن بشري مرّ بتجربة قاسية ويحتاج إلى دعمنا ورحمتنا. إن العلاج الحقيقي لا يكمن في الشفاء الجسدي فحسب، بل في شفاء الروح من خلال التضامن مع معاناة الآخر.
الأطباء والفلاسفة عبر التاريخ كان لهم دور بارز في توجيهنا نحو فهم أعمق للألم والمرض، يقول الطبيب الإنجليزي “توماس سيدنهام”: “إن الفهم الجيد للمرض يبدأ من التواضع في معاملة المرضى، فالألم ليس عقابًا بل هو تحدٍ.” هذه الكلمات تحمل في طياتها دعوة للتعامل مع المرض بإنسانية واحترام، بعيدًا عن أي أحكام مسبقة أو تفسير سطحى. فالمرض لا يقيم إلا في الجسد، أما الإنسان فهو روح قبل كل شيء.
إن التفريق بين “عقاب” و”ابتلاء” هو أمر حاسم في تعاملنا مع معاناة الآخرين، لا ينبغي لأحد أن يظن أن مرض شخص ما هو نتيجة لتوجهاته الفكرية أو سلوكياته الشخصية. المرض لا ينتمي إلى خطايا الإنسان، بل إلى تلك الحقائق التي لا يمكننا الهروب منها. فلنكن أرحم في تعاطفنا، ولنعرف أن الألم ليس تهمة، بل جزء من تلك التجربة الإنسانية التي لا يمكننا الهروب منها، وأن الإنسانية الحقيقية هي التي تظهر في مواقف الضعف، عندما يحتاج الآخرون إلى يد تمتد إليهم في محنتهم، لا إلى لسان يستهزئ بهم أو يعاقبهم.
هذه الافتتاحية إهداء إلى الفنان المُبتلى محمد الشوبي .