صحراء نكأ الجراح
عبد الوهاب الكاين
كاتب صحفي وباحث في مجال حقوق الإنسان
بدأت القصة منذ خمسين سنة مضت، حينما اشتد الخناق على المستعمر الاسباني ليغادر أرض الصحراء بلا رجعة، ويترك سكانها لحال سبيلهم، يدبرون شؤونهم بأنفسهم ويتخذون الكرامة سبيلا في الحياة، سيرا على نهج الآباء والأجداد.
حلت لعنة على منطقة الصحراء في السنوات الخمس الأولى من سبعينيات القرن الماضي، أجلت استقرارها وأمنها وتنمية ساكنتها، حتى كادت أن تفقدها هويتها وتاريخها المجيد، جراء التعرض لموجات من الحملات الخادعة ووجهات النظر الضارة بمثابة أوامر إجبارية للتنفيذ والإتباع.
تقع الصحراء في مفترق طرق بين المغرب وموريتانيا والجزائر، وقد خضعت بموجب معاهدات مذلة لحماية غاز، لا يرى فيها من شيء يستحق الذكر غير خيراتها الوفيرة، كمخرجات لمؤتمر برلين، الذي أسس لتواجد فعلي لمملكة قشتالة في أرض الصحراء، بشرط إعداد مخطط لاحتواء زعماء قبائلها، كتمهيد لامتصاص غضب الساكنة وتصوير الاحتلال كعنصر حاسم في نماء وتطوير الأرض والإنسان، عكس ما يضمره الوافد الجديد، من السعي لتكريس الاعتراف الدولي به وبتملكحقوق على ارضنا وثقافتنا وكينونتنا.
لم يترك مكوث الإسبان المطول بصحراء الأمل والصمود، حقوقا تاريخية ولا قانونية لتثبيت تواجدهم في شمال افريقيا، لأن الأمر ببساطة، لم يتعد القيام بدور مراقب وناهب لخيرات قارة تختلف جذريا، حضاريا وثقافيا وتاريخيا عن المتربصين بمصيرها ومنافعها وتطلعات شعوبها.
فكيف لأهل الصحراء ان يأمنوا شر هذا التربص المتواصل منذ ما يربو عن تسعة عقود؟ وهل سلم الصحراويون من استراتيجيات الخداع والاستلاب الثقافي والقيمي على أرضهم؟ وكيف استقبلت ساكنة المنطقة التغيرات الجذرية التي شهدتها المنطقة منذ دحر المستعمر الاسباني في العام 1975؟ وكيف واجهت ما تعرضت له الصحراء من عواصف، حركت رمالا كثيرة، ساهم حصاها المتناثر في قلب أنظمةوتعريض أخرى للضعف الشديد، وحولت أنظمة أخرى إلى ذئاب جائعة لا ترى موجبات شبعها إلا في نكأ جراح الصحراويين التي لم تبرأ بعد؟
قد يتساءل البعض عن الاهتمام المتزايد بالصحراء وأهلها إقليميا ودوليا، ويجد هذا الأمر مبرره في استمرار تداول ملف النزاع داخل أروقة الأمم المتحدة، كما شهدت العديد من المحافل الدولية تطور مسارها، دون أن يتوصل الصحراويون إلى استراحة محارب، يلملم القوم فيها جراحهم ويحصون خسائرهم ويتنفسون الصعداء، جراء حزنهم وتشظيهم وتفرقهم، ليس بدافع الحرب والسياسة فقط، بل بسبب سقوطهم ضحايا لحرب نفسية وحملات تضليل طويلة الأمد، لم تسعفهم للجلوس معا والتسامر والتذاكر بشأن واقعهم والتحديات والأخطار المحدقة بهم، واستشراف مستقبلهم، تجسيدا لخصائص مجتمعهم من كرم وشجاعة ومروءة.
خضعت الصحراء لرجات عنيفة، غيرت فهم مختلف مكوناتها لمبدأ التعايش والتكافل وبناء المشترك، في غفلة منا جميعا، فأصبحت الصحراء جزأين، لا يستطيع الأول سماع صوت الثاني، ولا يقبل تبادل أطراف الحديث معه، لأن أرضية الحوار معدومة ولا تترك لها رواسب التحريض على الكراهية والحقد ومظاهر عنيفة أخرى ليست أخف وطأة مما سبق ذكره، فرصة النمو في بيئة موبوءة، لا تسمح بحضانة أفكارواراء غير ما أملته قيادة لا تر في تعليم وتثقيف رعاياها خيرا يرجى.
عرف الصحراويون ظروف الحرب والمعاناة واليتم والقتل والاختطاف والتشريد والتشرذم وغيرها من مظاهر انتفاء الحياة، ليس لذنب ارتكبوه، بل لاعتناق مجموعة قليلة من شبابهم أفكارا سريالية في بيئة جرداء ومجافية للحياة، ساهمت الوسائل المستعملة لبلوغ أهدافهم في تعميق أزمة الصحراويين وقوت الاعتقاد لدى البعض منهم بوجود صنفين من الصحراويين، أحدهما يستمد قوته من امتهان كرامة الثاني، وقد سالت دماء ضحايا كثر جراء الامتثال الأعمى لتلك الأفكارالمسمومة.
إن الاعتقاد السائد بأن التوصل الى حل لقضية الصحراء سيريح الصحراويين وينهي معاناتهم، أمر يحتاج إلى تدقيق، لأن اثار الصراع الخفية تجذرت في نفوس أجيال، أصبحت لا ترى أي جدوى في الحوار والاستقرار والعيش المشترك وتوحيد المصالح والمستقبل والمصير، بل تنظر الى الاخر كتهديد وعدو وخطر داهم لها، ولا ترى من إمكانية لبقائها سوى مهاجمته والقضاء عليه. وعلى هذا الأساس، فالكثير من صحراويي المخيمات يعتقد بأنه أحق بالانتماء الى الصحراء من غيره، ويرجع سبب ذلك الى ما قساه من تشريد وضياع أحلام أجيال بوعود بعيدة المنال، في فضاء لافظ للحياة، لا يستقيم المكوث فيه وزرع بذور أمل بمستقبل أفضل، بسبب قساوة الطبيعة وديكتاتورية سلطة التنظيم والإشراف.
ويترتب على حالة التنافر تلك، المزيد من التفرقة والتباعد بين أفراد المجتمع الواحد حد التناقض، فأصبح الأشخاص يستسهلون وصم ذويهم بالخيانة والعار والتخاذل والوشاية بهم بنية إحداث الضرر، وغيرها من النعوت القدحية، ومرد ذلك لاختلاف في التقدير والرأي لنزاع سياسي قد لا يفسد للود قضية.
وتبعا لهذه الفرضية، فالدفاع عن وجه النظر المغربية لحل النزاع، تصنف بشكل الي خيانة وعمالة للعدو، بينما الانتصار لموقف الجزائر وسياساته اتجاه الصحراويين المرهون مستقبلهم لخمس عقود بمخيمات تنعدم فيها أدنى شروط الحياة الادمية، خارج اية حماية دولية، ودون إمكانية للتمتع بحقوق وضعية اللجوء التي تضمنها المواثيق الدولية لحقوق الانسان، يعد شهامة ونضالا وإقداما لم ير له مثيل ويستحق كل الثناء والتقدير.
إن سحل امرأة بأحد شوارع مدينة العيون، إحدى أكبر حواضر الصحراء، من طرف شرطي، وهي حالة معزولة خضعت لتحقيق عميق وترتبت عنها تدابير لمنع تكرارها، قد يتم تكييفها كجريمة حرب تستوجب تحرك المجتمع الدولي، ومعاقبة دولة بأكملها وحشد الدعم لإحراجها حقوقيا، بينما لن تعثر على أي جهة حقوقية ومؤسساتية جزائرية كانت أو صحراوية ناشطة بمخيمات تندوف، دافعت عن ضحايا انتهاكات جسيمة بالمخيمات، أو قامت بتقصي وتوثيق لحالات القتل والتعذيبوالاختفاء القسري وغيرها من الممارسات التي وقعت خلال الخمس سنوات الماضية، والغريب أن تلك الانتهاكات تطرقت لها اليات الأمم المتحدة الحمائية لحقوق الإنسان، بينما عم صمت مطبق وسط المدافعين عن حقوق الإنسان في الصحراء والمخيمات وداخل الأوساطالصحراوية بأوروبا المناصرة لتنظيم البوليساريو.
وتطرح حالة الانفصام تلك، أكثر من علامة استفهام حول عدم تفاعل النشطاء والمثقفين الصحراويين مع القضايا التي تلامس معيشهم وقضيتهم ومعاناتهم وواقعهم إن تم وقوعها بفعل تصرفات البوليساريو او السلطات الجزائرية.
وقد تلتقي بالنشطاء الصحراويين القادمين من مخيمات تندوف بأكثر من منتدى، وتراهم منهمكين -إلا من رحم ربك- بجمع معلومات عن إخوانهم القادمين من مدن الصحراء ويتداولون في كيفيات وطرائق التنقيص من قيمتهم ومحاولة تحجيم حضورهم في اشغال المؤتمرات واللقاءات الدولية، بنشر الاشاعات وتسليط ألسنة مقاولي حقوق الانسان عليهم في الندوات ولورشات النقاشية للإمعان في إيذائهم.
إن تفتيت رواسب النزاع المغروسة في نفوس الصحراويين لعقود، تحتاج الى تظافر إرادات صادقة، لا تنهل من معاجم القبلية المقيتة والتعصب والولاء الأعمى لمشاريع انتحارية رهنت مستقبلنا ومستقبل منطقتنا لزمن ليس باليسير، فالإيمان بالمصير المشترك وقدرتنا جميعا على الوصول الى بر الأمان عن طريق الحوار الهادئ والجاد دون أحكام مسبقة لبعضنا على البعض الاخر، أمر من شأنه أن يساعد على الوصول للحل وبدء مرحلة البناء نحو المشترك.
فالاعتقاد بأن الصحراوي هو القاطن بالمخيمات او القريب من قيادة الرابوني، أو الحاصل على امتيازات مجانية لا تستند لمعايير أخلاقية تذكر بمدن الصحراء، أمر من شأنه أن يزيد من تعميق الهوة ويباعد بين الصحراويين في الضفتين. وحري بنا أن نتسامى عن خلافات الماضي ونصم الاذان عن كل ما يعترض توحيد رأينا حول عيشنا المشترك وخلق أرضية للتفاهم تضع في الحسبان الانتصار للمنطق والاعتبار لكل ما جرى لأهلنا من ماسي وويلات، رحل المتسببون فيها، واستمرينا نحن في اجترار آلامها واثارها المدمرة.
ويمكن استحضار واقعة دالة على حالة التشرذم الواقع بين الصحراويين، بمخيمات الفلسطينيين بلبنان، بسبب استمرار عمليات الحقن الذهني العنيف والممنهج لفئات عريضة من الصحراويين بالمخيمات وبالإقليم، وتتلخص الحالة في حادثة غريبة أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حيث استمعت المناضلة الفلسطينية المرموقة ليلى خالد، لنقاش حاد بين فلسطينية ولبنانية بمخيمات لبنان بعد الاجتياح الصهيوني، حيث توجه الفلسطينية الكلام الى جارتها اللبنانية قائلة لها: هل تعرفين الان معنى تواجد المخيمات ومعنى كلمة لاجئين؟ ولما سئلت المناضلة ليلى خالد مواطنتها عن سبب حديثها، أجابت بأن جارتها اللبنانية كان تنعتها بالخيانة وبيع أرضها وانهاتستحق كلما تتلقاه من معاناة في مخيمات اللاجئين كباقي الفلسطينيين.
ويتضح جليا أن هذه الواقعة تنطبق تماما على واقعنا الصحراوي، فغالبية ساكنة المخيمات ترى ان الصحراويين المتواجدين بأقاليم الصحراء على امتدادها خونة وعملاء، وبالتالي يتم الحجر بصفة الية على خياراتهم وقناعاتهم، ولا يرونهم سوى تابعين لقيادة البوليساريو، وإلا سيحرمون من صكوك الغفران، في الوقت الذي ترى غالبية النخب السياسية الصحراوية ساكنة المخيمات عبئا محتملا على امتيازاتهم والمنافع التي يتلقونها دون عناء يذكر، ومن شأن حلحلة قضية الصحراء أن يفرض واقعا جديدا بنخب جديدة وبشروط جديدة، ترى النخب القديمة أنها منتهية الصلاحية لمجابهته والتموقع فيه، نظرا لسباتها العميق منذ بدأ الصراع.
إن حالة التردي والعفن التي تطبع واقع الصحراويين فيما بينهم، يفرض علينا طرح أسئلة من قبيل، من هي الجهة صاحبة المصلحة في استمرار نفث سموم التفرقة والتشرذم بين قاطني المخيمات في مواجهة أهاليهم في مدن الصحراء، ولماذا نرسم الاخر في عيوننا بصورة المنقذ والحليف القوي والمخلص، في حين قد نستمد قوتنا وتماسكنا من بعضنا البعض، وقد لا نحتاج لإنقاذ أو خلاص إذا ما اقتنعنا بحتمية التعايش المشترك مع جميع مكونات الفضاء الصحراوي دون إقصاء.
وتجدر الإشارة إلى أن تصديق أكاذيب من قبيل اعتبار صحراويي المغرب أعداء وجزائريو بشار إخوة هي زلة لا تغتفر، وقد لا نجد لها مثيلا في التاريخ إلا في الحالة الصحراوية، لأن المشكل في الظاهر لا يكمن في صحراويي المغرب، بل في كل من يعارض سياسات البوليساريو، وبالنتيجة إملاءات السلطات الجزائرية باستدامة المشكل مع المغرب، دون الاهتمام لما يعانيه الصحراويون من ماسي ومعاناة جراء هذا الصراع الإقليمي، لأن إقدام شباب صحراوي راكم تجارب في تدبير الشأن الصحراوي في المخيمات وبالإقليم على تأسيس حركةصحراويون من أجل السلام، كمنتدى سياسي صحراوي ينشد المساهمة في التوصل لحل سياسي متوافق بشأنه وواقعي، بهدف انهاء معاناة الصحراويين ولم شملهم، أسال الكثير من مداد التهجم وإطلاق العنان لخطابات التخوين والقذف العصماء، من قبل قيادات هرمة بالبوليساريو، لم تتورع يوما عن ارتكاب انتهاكات جسيمة في حق أبناء جلدتهم، سواء بدافع تمييزي او انتصارا لسادية ذاتية او خوفا من انكشاف جهلهم وفسادهم وتآمرهم على لحمة ووحدة الصحراويين .
ومن المؤكد أن محاولات عزل الصحراويين عن محيطهم الإقليمي والدولي، والسعي الحثيث لإيقاف تنمية مجالهم، وتوفير فرص لعمل أبنائهم على أرضهم، لعمري يعد من أقوى أوجه العداء الخفية ضدهم، والتي لا تدع فرصة للحياة إلا وأدتها في مهدها، ولا توفر إمكانية للبحث عن حل لصراع دام طويلا بين متنافسين كبارا بسواعد لاعبين صغار، لم يريدوا فهم أن في الاتحاد قوة، مصداقا لقول الشاعر الحسين بن علي الطغرائي:
كونوا جميعا يا بني إِذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا