دور علماء القرويين في النهضة العلمية والدينية في المغرب
إملاء الدكتور حمزة بن علي الكتاني:
—————-‐‐–‐——————-‐—–
عندما نتحدث عن تأسيس الدولة المغربية؛ نحن نتحدث عن المعايير أولا وعن الدولة الجامعة للمغرب ثانيا، وعن مفاهيم الإسلام كدين الدولة وكشريعة تحكم بها الدولة ويتحاكم إليها الناس، والوحدة الترابية، والشورى، وعقيدة أهل السنة والجماعة، ومذهب أهل المدينة الذي هو مذهب الإمام مالك فيما بعد. لأن الإمام مولانا إدريس بن عبد الله الكامل ت177هـ، لما جاء إلى المغرب؛ كان من أعيان أهل المدينة، ويقال بأنه روى “الموطأ” عن الإمام مالك، وأن له موطأ لكنه لم يشتهر.
ولما جاء إلى المغرب وانشغل نحو أربع سنوات بالجهاد؛ كان على مذهب أهل المدينة؛ مذهب محمد بن شهاب الزهري، ومذهب سعيد بن المسيب، ومذهب عبد الله الكامل بن الحسن بن الحسن، ومذهب الأعيان الكبار الذي جمعه الإمام مالك بن أنس، وبلوره، وقعَّد له قواعده؛ فأصبح يشتهر – فيما بعد – بمذهب الإمام مالك، رحمه الله تعالى، خاصه بعد تأليف الإمام سحنون للمدونة.
وعندما يُقال بأن الإمام الدرَّاس بن إسماعيل أدخل المذهب المالكي للمغرب، فإنما يُقصد: أدخل “المدونة”؛ لأنه أخذ عن الإمام سحنون وأدخل مدونته التي كانت باكُورة المذهب المالكي كمدرسة كاملة متكاملة الأطراف والبناء، أما بمفهوم عمل أهل المدينة؛ فإن يحيى بن يحيى الليثي دخل المغرب، وكذلك بكر بن حماد التاهرتي، وعمير بن مصعب الأزدي الذي كان وزير الإمامين إدريس الأكبر والأزهر، وعامر بن محمد القيسي…وغيرهم من الأئمة الكبار الذين هم تلامذة الإمام مالك، أو تلامذة تلامذته، وكانوا جاؤوا إلى مدينة فاس، واستقضى واستوزر الإمام إدريس الأكبر ثم بعده الإمام إدريس الأزهر جملة منهم.
الحاصل؛ هذا المشروع بُني أولا على الشورى، فأول ما قام الإمام مولاي إدريس الأزهر 213هـ، به بعد بنائه مدينة فاس عام 193هـ: بناء جامع الشرفاء في فاس القرويين، وبناء جامع الأشياخ في فاس الأندلس؛ لأن فاس عُدوتان كما نعرفه، عُدوة القرويين، وعدوة الأندلس، العدوة العليا؛ هي: عدوة القرويين، والعدوة السُّفلى تسمى بفاس الاندلس؛ لأنها سكنها قوم جاؤوا من الأندلس، خاصه ممن ثاروا على الأمويين في ثورة الربض الشهيرة، وكان من ضمنِهم أئمة كبار، بعضهم عاد إلى الأندلس، وبعضهم بقي في فاس، وكلا العدوتين يسميان: بفاس الإدريسية.
وكذلك عدوة القرويين؛ جاءت قبائل وعلماء وتجار وأعيان من القيروان من بلاد تونس، بلاد عقبة بن نافع، واستوطنوا مدينة فاس، فسميت: عدوة القرويين. وبين العدوتين وادي الجواهر، أو ما يُعرف بوادي فاس، أو نهر فاس.
في عدوة الأندلس كان هناك جامع الأشياخ، وهو موجود إلى الآن، ولكن للأسف مغلق ومهمَل، وهو جامع كبير، هذا كان أول برلمان في العالم، أو على الأقل: أول برلمان في العالم الإسلامي، وقد تأسس بعد سنه 193 للهجرة، بناه الإمام إدريس الأزهر، وسمي: “الأشياخ”؛ لأنه كان يجمع فيه زعماء ورؤوس القبائل في المغرب، ويستشيرهم في الأمور العظيمة. وكذلك يجمع فيه كبار العلماء.
تأسيس جامع القرويين:
بعد ذلك عندما توسعت البلاد وكبرت؛ كان المشروع العلمي الكبير الذي أسسه الإمام يحيى الأول بن محمد بن إدريس بن إدريس؛ أي: وهو مشروع جامعه القرويين؛ فقد أسس هذه الجامعة ابتداء في بنائها سنة 245، ومولت هذا المشروع السيدة فاطمة الفهرية؛ وهي: فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري القيرواني، فأصلها من القيروان، وهم من الفهريين الذين كان منهم عقبه بن نافع، وغيره، بل قريش كلها فهرية.
مريم وفاطمة الفهرية ورثتا مالا كثيرا من والدهما، فساهمتا في بناء جامع القرويين في عدوة القرويين، وجامع الأندلس في عدوة الأندلس، وبذلك تم المشروع النهضوي الذي كان في المغرب، الذي هو: تثبيت وترسيخ دعائم الإسلام في هذه البلاد، وتم افتتاح جامع القرويّين عام 163هـ في عهد الإمام يحيى الثاني ابن يحيى الأول بن محمد بن إدريس.
وكان من أوائل من استدعي إليه أئمة من الأندلس ومن شمال إفريقيا؛ على رأسهم: الإمام الحافظ بكر بن حماد التاهرت ت296هــ، الذي جاء إلى فاس ودرَّس دروسا كثيرة فيها، وهذا من رجال الجرح والتعديل، من طبقة الإمام البخاري؛ أخذ عن مسدّد بن مسرهد، وأدخل مسنده إلى شمال إفريقيا، وله أقوال منثورة في كتب الجرح والتعديل.
وكذلك حل بمدينه فاس أعلام كثر؛ ذكروا عند ابن أبي زرع في “روض القرطاس”، وذكرهم ابن خلدون، وذكرهم الإمام القاضي عياض في “ترتيب المدارك”…وغيرهم.
فأما المدينة الاقتصادية الأولى التي كانت؛ فهي: مدينة البصرة؛ كانت هذه المدينة قُرب وازان الآن، وكانت هي العاصمة الثانية، وكانت تطبع فيها العملات الوطنية، فكانت دار السكة توجد في فاس التي كانت تسمى: العالية أيضا؛ إذ من أسماء فاس: العالية. والبصرة كانت مدينة كذلك جهة وازان، ولكنها خربت بعد انتهاء ملك الأدارسة.
وأسس الأدارسة ميناء كبيرا؛ هو: ميناء أصيلة؛ لأن أصيلة كانت مرفأ قديما، كان يسمى: أزيلاش، أو: أزيلا؛ الإكس لا ينطَق، فلما عمّرها الأدارسة وجعلوها مدينة حافلة؛ كانت تأتي إليها التجارات من أوروبا ومن المشرق، ومن إفريقيا، فسميت أصيلة؛ عُرِّب الاسم وأصبح أصيلة من الأصالة، ولكن إلى الآن ينسب إليها فيقال: فلان زيلاشي، ولا يقال أصيلي إلا تعريبا. ومنها: الإمام أبو محمد الأصيلي الشهير، الذي أخذ عن الإمام الدراس بن إسماعيل وغيره.
هكذا اكتملت صورة الدولة المغربية، وهي دولة مسلمة، مبنية على العلم؛ فتعتبر جامعة القرويين أقدم جامعة في العالم؛ إذ كان تأسيسها سنه 245هـ كما ذكرت، والجامعة التي جاءت بعدها: جامعة الأزهر؛ إنما أخذت صفتها الجامعية سنة 545هـ تقريبا، وأسست نحو سنه 360 للهجرة، فكانت بعد القرويين.
وجامعة القرويين سميت جامعة؛ لأنها كانت تدرَس فيها علوم كثيره، ليست العلوم الشرعية فحسب، بل كانت تدرس فيها علوم الهندسة، وعلوم الطب، وعلوم الفلك، وعلوم النجوم، وعلم التوقيت…وغير ذلك من العلوم التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. فأخذت الصفة الجامعية، وكانت لها روافد، حتى يذكَر بأن في زمن المرينيين كان في فاس أكثر من مائة مدرسة كلها تابعة للقرويين، وكذلك أسس المرينيون – الذين كانوا أوج الحضارة المغربية، لأستاذنا وشيخنا العلامه سيدي محمد المنوني – رحمه الله تعالى – كتاب: “ورقات في حضارة المرينيين”؛ تحدث فيه عن دور الدولة المرينية في نشر العلم. ومن ذلك أنهم أسسوا نحو ثمانين مدرسة؛ بمعنى: معهد علمي، في منطقة دكالة وحدها، يعني: ما بين الجديدة إلى آسفي، كان هناك نحو ثمانين معهدا شرعيا كبيرا أسسها المرينيون. وفي مدينة فاس لوحدها كانت نحو مائة مدرسة.
وأسس ملك المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين نحو عام 541هـ جامعة كبيرة في مدينة مراكش، اسمها: جامعة ابن يوسف، والتي أصبحت فيما بعد كذلك رافدا من روافد جامع القرويين.
عندما نتحدث عن جامع القرويين، نحن نتحدث عن مؤسسة كانت هي رُوح المغرب ولبه؛ فقضاة المغرب وعلماؤه في شتى أطراف البلاد في السوس، في شنقيط، في شمال إفريقيا، في الرباط، في مراكش…في غيرها، كان لا يعتد بعلمهم ويُعتبر إلا إذا كانوا درسوا في جامعة القرويين، أو درسوا على من درس في هذه الجامعة العظيمة، بل الكثير من ملوك المغرب كانوا من خريجي جامعة القرويين.
ولذلك فإن الإمام العلامة عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي رحمه الله، المتوفى نحو سنة 1096 للهجرة، ألف منظومة سماها: “العمل الفاسي”، وهذه المنظومة ذكر فيها ما اتفق عليه علماء فاس، وجرى عليه عملهم في الفتيا، فكأنه جعله كعمل أهل المدينة، يُحتَج به، والعمل الفاسي ليس هو عمل العوام أو أهل الأسواق؛ إنما هو عمل ما اتفَق عليه الفقهاء، وتضافرت عليه فتواهم، وهذه المنظومة مهمة جدا، وهي من ضمن مجموعة المتون التي كان يحفظها طلبة العلم، وقد شرحها علماء كبار؛ منهم العلامة محمد ابن أبي القاسم السجلماسي الرباطي. وكذلك شرحها العلامه المهدي الوزاني…وغيرهما من العلماء.
وللعلامة سيدي المهدي بن أحمد بن علي بن يوسف الفاسي ت1109هـ، رحمه الله تعالى، وهو من كبار علماء المغرب في وقته، في القرن الثاني عشر، له كتاب: “العَرف الآسي، في العُرف الفاسي”؛ أعاد فيه حتى العادات الاجتماعية والتقاليد وغير ذلك إلى أصول شرعية، وهذا يدل على أن المغرب كان يعيش في بيئة دينية مؤصّلة، ونهضة علمية كبيرة.