النَّسب الجِيني بين علمٍ يؤكده وفقهٍ يُنكره

المجلسُ العِلْمِيُّ الأعلى المغربيُّ يعيشُ اليومَ مأزقًا تاريخيًّا يضعُهُ في مواجهةِ تطلُّعاتِ الشعبِ المغربيِّ نحو العدلِ والمساواةِ، ففي الوقتِ الذي تستوجبُ فيهِ المرحلةُ انفتاحًا فكريًّا واجتهادًا بنَّاءً، جاءَ موقفُهُ الرافضُ لمعظمِ تعديلاتِ مدوَّنةِ الأسرةِ موقفًا يُكرِّسُ الجمودَ الفكريَّ والانغلاقَ على آفاقِ الاجتهادِ الشرعيِّ؛ هذا التوجُّهُ يُعاكسُ روحَ الإسلامِ القائمةَ على العدلِ والمصلحةِ، كما يُثيرُ تساؤلاتٍ جديَّةً حولَ أهليةِ المجلسِ لمواكَبةِ التحوُّلاتِ الاجتماعيةِ والعِلْميةِ المتسارعةِ.

الإسلامُ لم يكن يومًا دينًا يرفضُ المستجدَّاتِ أو يُعيقُ تحقيقَ العدلِ، فقد أرسى قواعدَ مرنةً للتعاملِ مع التطوُّراتِ بما يُحقِّقُ مصالحَ الناسِ؛ يقولُ الإمامُ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: الشريعةُ مبناها وأساسُها على الحكمِ ومصالحِ العبادِ في المعاشِ والمعادِ، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها. غيرَ أنَّ المجلسَ العِلْمِيَّ الأعلى، بموقفِهِ الرافضِ لاعتمادِ الخبرةِ الجينيَّةِ كوسيلةٍ لإثباتِ النسبِ والحقِّ في ميراث ما يُسمَّى غَصباً كما قرأَنا في جامعة القرويين كَقاعدة “إبن اللِّعان لا يرِث” قد أظهرَ تعنُّتًا فكريًّا يعكسُ رؤيةً ضيِّقةً تُخالفُ مقاصدَ الشريعةِ بمفهومها العام ، الخبرةُ الجينيَّةُ تمثِّلُ اليومَ أداةً علميَّةً قطعيَّةً تُحقِّقُ العدالةَ وتضعُ حدًّا للجدلِ القائمِ حولَ إثباتِ النسبِ، وهي أقربُ إلى جوهرِ الإسلامِ من شهادةٍ قد تكونُ عُرضةً للطعنِ والتزويرِ؛ كما يُؤكِّدُ الدكتورُ يوسفُ القرضاويُّ أنَّ الإسلامَ دينُ الحقائقِ، ولا يضيقُ باستخدامِ الأدواتِ العِلْمِيَّةِ الحديثةِ إذا ما كانت تُحقِّقُ العدلَ وتخدمُ المصلحةَ العامةَ.

الرَّفضُ القاطعُ لاعتمادِ هذه الوسيلةِ العِلْمِيَّةِ يعني حرمانَ أطفالٍ أبرياءَ من حقوقِهم الشرعيَّةِ في الانتسابِ إلى آبائِهم، كما يحرِمُهم من الإرثِ والرعايةِ، ممَّا يُؤدِّي إلى ظُلمٍ بيِّنٍ يتعارضُ مع القاعدةِ الفقهيَّةِ الضَّررُ يُزالُ. النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: إنَّكم تختصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيهِ شيئًا بقولهِ، فإنَّما أقطعُ له قطعةً من النارِ. وهذا الحديثُ الشَّريفُ يُجسِّدُ روحَ العدلِ في الإسلامِ، التي تغيبُ عن موقفِ المجلسِ العِلْمِيِّ الأعلى الرَّاهنِ.

التصلُّبُ الفقهيُّ في قضايا النَّسبِ والإرثِ لا يعكسُ حِكمةَ الشريعةِ، بل يُظهرُ عجزًا عن مواكَبةِ تطوُّراتِ العصرِ. دولٌ إسلاميَّةٌ عديدةٌ كماليزيا وتونسَ قد تبنَّتْ مواقفَ مرنةً وحديثةً في قضايا الأسرةِ. فماليزيا اعتمدتِ الخبرةَ الجينيَّةَ كوسيلةِ إثباتٍ قانونيَّةٍ، ممَّا ساهمَ في تحقيقِ العدالةِ وتقليلِ النِّزاعاتِ الأسريَّةِ. وفي تونسَ جرى تعديلُ قوانينِ الإرثِ بما ينسجمُ مع مصالحِ المجتمعِ دونَ الإخلالِ بجوهرِ الشريعةِ. المغربُ الذي يسعى ليكونَ رائدًا في العالمِ الإسلاميِّ باتَ اليومَ متأخِّرًا بسببِ تقليديَّةِ المجلسِ العِلْمِيِّ الأعلى، التي تُعيقُ إصلاحاتٍ أساسيَّةً تصبُّ في مصلحةِ الأسرةِ والمجتمعِ.

الرِّسالةُ الملكيَّةُ كانت واضحةً في دعوتِها المجلسَ العِلْمِيَّ الأعلى إلى اجتهادٍ بنَّاءٍ يُراعي المستجدَّاتِ ويُسهِمُ في تطويرِ مدوَّنةِ الأسرةِ. الاجتهادُ ليس خروجًا عن النُّصوصِ، بل تفعيلٌ لمقاصدِها بما يُحقِّقُ المصلحةَ العامةَ. الإمامُ الشَّافعيُّ قالَ: رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأَ، ورأي غيري خطأٌ يحتملُ الصَّوابَ. أينَ هذه الرُّوحُ الاجتهاديَّةُ من مواقفِ المجلسِ الرَّافضةِ للإصلاحِ؟

المجلسُ العِلْمِيُّ الأعلى يحتاجُ إلى مراجعةٍ شاملةٍ لتكوينِهِ ومنهجيَّتِهِ، يجبُ أن ينفتحَ فُقهاؤُهُ على عُلومِ الاجتماعِ والقانونِ وحقوقِ الإنسانِ، حتَّى يكونوا قادرينَ على تقديمِ اجتهاداتٍ تُلبِّي تطلُّعاتِ المجتمعِ، إذا استمرَّ المجلسُ في هذا الجمودِ الفكريِّ، فإنَّهُ يُخاطرُ بفقدانِ مصداقيَّتِهِ وشرعيَّتِهِ، في لحظةٍ تاريخيَّةٍ تستوجبُ شجاعةً فكريَّةً وجُرأةً في اتخاذِ القراراتِ، المغربُ بحاجةٍ إلى مجلسٍ عِلْمِيٍّ يعكسُ روحَ الإسلامِ، ويُسهِمُ في تحقيقِ عدالةٍ اجتماعيَّةٍ تُراعي التطوُّراتِ العِلْمِيَّةَ والحقوقيَّةَ، ولا يُعيقُها التَّقليدُ الجامدُ والانغلاقُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى