عِندَما يَستحوذُ نِظَام حُكم الأَثرياء عَلَى الدَّولَة .. أخنُّوش نموذجاً

افتتاحية

حُكمُ أصحابِ الثَّروةِ، أو ما يُعرفُ في عِلمِ الاجتماعِ السِّياسيِّ بمُصطلحِ النِّظامِ البِلتوقراطيِّ، هو مفهومٌ نَظَريٌّ يعني سَيطرةَ الأثرياءِ على السُّلطةِ وتَحكُّمَهُم في قراراتِ الدَّولةِ والتَّأثيرِ عليها؛ وهو نظامٌ غيرُ عادلٍ، ويُمكنُ اعتبارُهُ حُجَّةً في النِّقاشِ السِّياسيِّ أكثرَ من كونهِ نظامًا سِياسيًّا رَسميًّا بالمعنى الدَّقيقِ للكلمة.

ويَكونُ هذا النُّفوذُ على مستوى سُلطةِ اتِّخاذِ القراراتِ الكُبرى والحاسِمةِ عبرَ المُؤسَّساتِ الدِّيمقراطيَّةِ، وهو ما يجعلُ هذا الشَّكلَ من الحُكمِ، المُتمركزِ في أيديِ الطَّبقةِ الاجتماعيَّةِ الأكثَرِ ثراءً، أرضيَّةً خِصبةً للتَّفاوتاتِ الطَّبقيَّةِ بينَ مُختلِفِ فِئاتِ المجتمعِ.

وفي هذا النِّظامِ، فإنَّ الأثرياءَ هُم مَن يَحكمونَ ويُسيِّرونَ البلادَ، إمَّا بشكلٍ مُباشرٍ من خلالِ تولِّي مَناصبَ حسَّاسةٍ، أو عبرَ تعيينِ أو وضعِ أو حتَّى فرضِ أشخاصٍ آخرينَ في مَواقعَ رسميَّةٍ بجهازِ الدَّولةِ، يكونونَ في خِدمتِهم ويُحافظونَ على مَصالِحِهِم الخاصَّةِ.
ويَستخدمُ الأثرياءُ ثرواتِهم للتَّأثيرِ على المسؤولينَ المُنتَخبينَ عبرَ الوسائلِ القانُونيَّةِ وحتَّى غيرِ القانُونيَّةِ، من قَبيلِ الضَّغطِ والرَّشوةِ والمُساهماتِ الماليَّةِ الكبيرةِ في الحَملاتِ الانتخابيَّةِ.

ويُمثِّلُ حُكمُ الأثرياءِ صوتَ أَقليَّةِ المجتمعِ التي تَهتمُّ بنَفسِها أوَّلًا. ونتيجةً لذلك، يُستخدَمُ هذا المفهومُ للتَّعبيرِ عن الخوفِ من أن تَضعَ الأقليَّةُ الحاكمةُ مَصالحَها وأولويَّاتِها فوقَ مَصالحِ وأولويَّاتِ الدَّولةِ. ويُعاني النَّاسُ في ظلِّهِ من الاضطِهادِ والتَّمييزِ وانعِدامِ المُساواةِ.

وجماعةُ الأثرياءِ في هذا النِّظامِ تُؤثِّرُ في صِناعةِ القرارِ السِّياسيِّ، عبرَ وضعِ سياساتٍ عامَّةٍ تُوفِّرُ امتيازاتٍ مُباشِرةً لهم ولكلِّ ذوي الدَّخلِ المُرتفعِ، ويَطمحونَ بذلكَ إلى الحِفاظِ على ثرواتِهم ومُراكمتِها على حِسابِ ثرواتِ الدَّولةِ وحاجاتِ مُواطنيها.

وهناكَ سِماتٌ بارزةٌ يَتميَّزُ بها نظامُ حُكمِ الأثرياءِ، تتمثَّلُ بدرجةٍ أُولى في كَثرةِ سَنِّ السياساتِ الحكوميَّةِ التي تَخدمُ مَصالِحَ الأثرياءِ على حِسابِ الطَّبقاتِ الدُّنيا منَ المجتمعِ في مُعظمِ الأحيانِ. ويَظهرُ هذا النِّظامُ في بُلدانٍ تُعاني من تَفاوتٍ كبيرٍ في الدَّخلِ بينَ الأغنياءِ والفُقراءِ، وكذلكَ في المجتمعِ الذي يُعاني من ثقافةِ انعِدامِ المُساواةِ وله تاريخٌ كبيرٌ في دَعمِ فِئةٍ ما على حِسابِ الفِئاتِ الأُخرى بشكلٍ غيرِ عادلٍ، عبرَ سَنِّ سياساتٍ عُموميَّةٍ لهذا الغَرضِ، يُمكنُها أن تُخلِّفَ بيئةً سِياسيَّةً مُهيَّأةً لحُكمِ الأثرياءِ.

وينتعشُ نظامُ حُكمِ الأثرياءِ في الأنظمةِ السِّياسيَّةِ التي لها تاريخٌ في الفسادِ، والحُكوماتِ التي يُراكمُ فيها المسؤولونَ السِّياسيونَ الفاسدونَ ثرواتٍ شخصيَّةً من خِلالِ اختلاسِ ثرواتِ البلادِ. وتبقى لهذه العَواملِ نَتائجُ وتداعياتٌ سَلبيَّةٌ على المُستوياتِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتماعيَّةِ وغيرها.

ونظامُ حُكمِ الأثرياءِ يُمكنهُ سِياسيًّا إضعافُ مَنسوبِ الدِّيمقراطيَّةِ عندَ عدمِ اتِّخاذِ قراراتٍ شَرعيَّةٍ تَستمدُّ قوَّتَها من دَعمِ المُواطنينَ ومُساندتِهم، وتهدفُ لِخدمةِ مَصالِحهم. واقتصاديًّا، تَستغلُّ المَواردَ الرَّئيسيَّةَ للدَّولةِ، لا سِيما المَواردَ النَّادرةَ، على نَحوٍ غيرِ عَقلانيٍّ ويفتقدُ للحِكمةِ اللازمةِ، مِما يُؤدِّي إلى استِنفادِها. وهذا يُمكنُ أن يُضعِفَ اقتصادَ الأُمَّةِ. ومُجتمعيًّا، تَستمرُّ فجوةُ التَّوزيعِ غيرِ العادلِ للثَّروةِ لفترةٍ زمنيَّةٍ طويلةٍ، وتَتَّسعُ الفوارقُ الاجتماعيَّةُ، ويُمكنُ أن يُؤدِّي ذلكَ إلى اضطراباتٍ اجتماعيَّةٍ. ونفسيًّا، يُصبحُ للأثرياءِ الذينَ يَستولونَ على السُّلطةِ إحساسٌ بأحقيَّتِهم منَ الاستفادةِ من ثرواتِ البلادِ على حِسابِ الآخَرينَ.

في السِّياقِ المَغربيِّ، يُمكنُ ربطُ مفهومِ النِّظامِ البِلتوقراطيِّ بحالةِ عزيز أخنوش، رئيسِ الحُكومةِ المَغربيَّةِ وأحدِ أبرزِ أثرياءِ البلادِ. أخنوشُ، الذي يَملِكُ إمبراطوريَّةً اقتصاديَّةً ضخمةً تَشملُ قِطاعاتٍ حَيويَّةً مثلَ المَحروقاتِ والزِّراعةِ، يُثيرُ جَدلًا واسعًا حولَ تأثيرِ الثَّروةِ على القَرارِ السِّياسيِّ. فمنذُ تَولِّيهِ رئاسةَ الحُكومةِ، تَصاعدتِ الانتقاداتُ بشأنِ السياساتِ الاقتصاديَّةِ التي يُنظرُ إليها على أنَّها تَخدمُ النُّخبةَ الاقتصاديَّةَ أكثرَ مِما تَخدمُ مَصالِحَ المُواطنينَ، خاصَّةً في ظلِّ ارتفاعِ أَسعارِ المَحروقاتِ وتفاقُمِ الأوضاعِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ.
يرى البعضُ أنَّ تجربةَ أخنوش تُمثِّلُ نَموذجًا لِتحالفِ المالِ والسِّياسةِ، حيثُ تَتداخَلُ المَصالِحُ الاقتصاديَّةُ معَ صُنعِ القَرارِ، مِما يُعمِّقُ فجوةَ التَّفاوتِ الطَّبقيِّ ويُضعفُ ثقةَ المُواطنِ في المُؤسَّساتِ الدِّيمقراطيَّةِ. هذه الحالةُ تَفتحُ النِّقاشَ حولَ خُطورةِ هيمنةِ الأثرياءِ على السُّلطةِ وأَثرِها في تَقويضِ العَدالةِ الاجتماعيَّةِ وتَحقيقِ التَّنميةِ المُتوازِنةِ.

بقلم : محمد القاسمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى