مدونة الأسرة محاولة نحو إنصاف المرأة
يشكل إصلاح مدونة الأسرة المغربية علامة فارقة في مسيرة حقوق المرأة بالمغرب، إذ جاء استجابة لتطلعات مجتمع يسعى لتحقيق التوازن بين متطلبات العصر وأصالة القيم الإسلامية. هذه المدونة، التي رأت النور لأول مرة في عام 2004، وما تبعها من تعديلات، أعادت تعريف مكانة المرأة داخل الأسرة والمجتمع، وأرست مبدأ الشراكة بين الرجل والمرأة على أسس العدالة والمساواة.
مدونة الأسرة الجديدة قدمت تصوراً شاملاً لدور المرأة وحقوقها، متجاوزة النظرة التقليدية التي كانت تحصرها في أدوار محدودة. فعبر هذه المدونة، تم التأكيد على أن المرأة ليست مجرد طرف ثانوي في الأسرة، بل هي شريكة كاملة في بناء الأسرة وتنميتها؛ ومن أبرز مظاهر هذا الإنصاف، تقاسم المسؤوليات داخل الأسرة، حيث نصت المدونة على مبدأ المساواة في المسؤوليات بين الزوجين، سواء فيما يتعلق برعاية الأبناء أو المساهمة في الشؤون المادية للأسرة، وهو ما يعكس وعياً متقدماً بدور المرأة كشريكة في صنع القرار الأسري.
كما أصبحت المدونة تضمن حقوق المرأة الاقتصادية، لا سيما فيما يتعلق بالنفقة بعد الطلاق، والحق في التعويض إذا كانت قد ساهمت في تنمية ثروة الأسرة. هذا التوجه يعد انتصاراً لفكرة “الكد والسعاية”، التي تُقر بحق المرأة في نصيب من الثروة المشتركة، تقديراً لجهودها داخل البيت وخارجه. إلى جانب ذلك، أكدت المدونة على حق الأم في حضانة أبنائها، وضمنت استقلاليتها في اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة الأطفال. كما فتحت المجال أمام المرأة لتولي الوصاية القانونية على الأبناء، مما يعكس احتراماً لقدرتها على تحمل هذه المسؤولية.
ما يميز مدونة الأسرة هو انسجامها مع القيم الإسلامية التي تدعو إلى العدل والإنصاف، وفي الوقت نفسه استجابتها لمتطلبات العصر. الإسلام أرسى منذ البداية مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، كما جاء في قوله تعالى: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” (البقرة: 228). ولذلك، فإن المدونة ليست خروجا عن ثوابت الدين، بل هي تطبيق عملي لرؤية الإسلام العادلة والمتجددة، بما يحقق كرامة المرأة ويحمي حقوقها في مجتمع متغير.
على الرغم من أن المدونة قد أثارت نقاشات واسعة بين مؤيدين ومعارضين، إلا أن الواقع يؤكد أنها لم تنتصر للمرأة على حساب الرجل، بل سعت إلى تحقيق توازن يحمي الأسرة كمؤسسة اجتماعية. فالمرأة لم تُمنح هذه الحقوق لتتفوق على الرجل، بل لتعزيز الشراكة بين الطرفين وضمان استقرار الأسرة والمجتمع.
ورغم الإنجازات الكبيرة التي حققتها المدونة، فإن التحدي الأكبر يكمن في التطبيق الفعلي لهذه النصوص على أرض الواقع. لا تزال هناك عقليات تقليدية وممارسات اجتماعية تعيق تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين. وهنا، تبرز الحاجة إلى توعية مجتمعية واسعة لتعزيز ثقافة حقوق المرأة وتطبيق القوانين بحزم.
إن مدونة الأسرة المغربية ليست مجرد نصوص قانونية، بل هي رؤية حضارية تهدف إلى بناء مجتمع يقوم على المساواة والشراكة. انتصارها للمرأة هو في الحقيقة انتصار للأسرة المغربية بكل مكوناتها، لأنه يعزز دور المرأة كركيزة أساسية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ومع استمرار المغرب في تطوير تشريعاته الاجتماعية، تبقى مدونة الأسرة مثالاً يحتذى به في كيفية تحقيق التوازن بين الالتزام بالهوية الثقافية والانفتاح على متطلبات العدالة الإنسانية. بهذا، تظل المدونة مرآة لرؤية المغرب الطموحة نحو مجتمع أكثر إنصافاً واحتراماً لحقوق الجميع.