رأس السنة الميلادية: بين الجدل الثقافي والجذور التاريخية
تستمر الاحتفالات برأس السنة الميلادية في إثارة جدل واسع، خاصة بين مختلف التيارات الدينية في العالم العربي، حيث يتبنى بعض السلفيين موقفاً رافضاً لهذه المناسبة، معتبرين إياها مخالفة للشريعة الإسلامية. ولكن إذا نظرنا إلى جذور هذه المناسبة بعين أكثر موضوعية وواقعية، سنكتشف أن الاحتفال برأس السنة لا يرتبط في الأصل بالمسيحيين أو اليهود، بل هو مجرد مناسبة مدنية يحتفل بها العالم كله بمناسبة انقضاء سنة وفق تقويم شمسي.
في تدوينة حديثة للمحامي حميد بجو، تم توضيح حقيقة هذا الجدل. حيث أكد أن الاحتفال برأس السنة الميلادية لا علاقة له بأي معتقدات دينية، بل هو احتفال يعتمد على التقويم الشمسي الذي ابتُكر في مصر القديمة. هذا التقويم، الذي كان يخص المزارعين المستقرين في مناطق معينة، ليس فقط حدثاً دينياً خاصاً بالغرب أو المسيحيين، بل هو جزء من تاريخ الإنسانية المشترك. فقد قام الفراعنة باستخدام هذا التقويم ليتناسب مع دورة الشمس التي تؤثر على الزراعة، ويعتبر تقويماً شمسياً بامتياز.
ما يثير الاستغراب هو أن الرفض المطلق للاحتفال برأس السنة الميلادية يتناقض مع استخدامنا لهذا التقويم في حياتنا اليومية. فكلنا نكتب تواريخ ميلادنا، نتعامل مع التواريخ الرسمية، ولا يتردد أحد في استخدام هذا التقويم الذي يعود إلى عصور قديمة، بما في ذلك تسجيل تاريخ حياتنا الشخصية، من دون أي تساؤل عن مصدره أو تأثيره الديني.
من مصر القديمة، انتقل هذا التقويم إلى المنطقة المغاربية حيث أصبح يعرف بالسنة الفلاحية أو الأمازيغية، والتي كانت تُستخدم في شمال إفريقيا. كما انتقل هذا التقويم إلى الغرب، حيث تبناه الإغريق ثم الرومان، ليعدّله يوليوس قيصر في عام 43 قبل الميلاد ليظهر التقويم اليولياني. واللافت في هذا التعديل أنه كان متطابقاً في البداية مع التقويم الأمازيغي، وذلك قبل انتشار المسيحية بقرون.
في القرن السادس عشر، قام البابا غريغور في روما بإجراء تعديل آخر على هذا التقويم، مما أدى إلى ظهور التقويم الغريغوري الذي نستخدمه اليوم. هذا التعديل هو الذي جعل بداية السنة في 1 يناير، وهو ما يعترف به العالم أجمع.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن اختصار رأس السنة الميلادية في يوم 31 ديسمبر فقط، بل يترافق هذا اليوم مع مناسبة دينية أخرى، وهي عيد ميلاد المسيح الذي يحتفل به المسيحيون في 24 ديسمبر بالنسبة لمسيحيي الغرب، أو 13 يناير بالنسبة لمسيحيي الشرق. ومن الغريب أن هذا التاريخ الأخير يتطابق مع رأس السنة الأمازيغية أو الفلاحية في بعض مناطق شمال إفريقيا.
إذاً، الاحتفال برأس السنة الميلادية ليس مجرد طقس غربي ديني، بل هو تقليد عالمي يشترك فيه الكثير من الشعوب والثقافات، ويعود إلى جذور تاريخية قديمة تتجاوز حدود الدين والجغرافيا. فالتقويم الذي نستخدمه اليوم هو إرث إنساني مشترك بين العديد من الحضارات، من الفراعنة إلى الرومان والإغريق، مروراً بالكنيسة الكاثوليكية.
إن رفض هذا التقليد لمجرد ارتباطه بعالم المسيحيين يعكس جهلاً بتاريخ هذا التقويم العريق، الذي يعد جزءاً من الثقافة الإنسانية الأوسع. ومن المهم أن نعي أن الاحتفالات برأس السنة ليست مجرد مناسبة دينية أو طقسية، بل هي احتفال بالزمن، وبمرور عام جديد، وبالفرص القادمة.
في النهاية، يجب علينا أن نتجاوز الخلط بين التقويم الميلادي الذي هو جزء من التراث العالمي، وبين العادات والاحتفالات الدينية التي تنظمها كل طائفة على حدة. فلنحتفل معاً بمناسبة نهاية العام وبداية آخر، دون الحاجة إلى الوقوع في فخ الجدالات الدينية غير المجدية.